صوت المغترب
حول واقع التشرذم والانشقاقات في الحركة السياسية الكردية السورية… علي صالح ميراني: عقلية التشظي ترسخت بعمق بأول انشقاق
حاورته: لورين صبري
د. “علي صالح ميراني” بروفيسور مساعد في التاريخ الحديث والمعاصر (العلاقات الدولية) أستاذ في جامعة زاخو/ كلية العلوم الإنسانية/ قسم التاريخ
من مواليد ديريك/ المالكية قرية قلديمان عام 1975م، أنهى دراسته الابتدائية في قريته والإعدادية والثانوية في ديريك.
وحصل على شهادة التاريخ من جامعة دمشق عام 1999/2000 والماجستير من حامعة دهوك 2003 والدكتوراه عام 2013.
يطرح الحديث عن واقع التشرذم والانشقاقات في الحركة الكردية في سوريا ذروته، وبكل أسف، خلال الفترة الأخيرة، وبوتائر أعلى، وذلك نتيجة حساسية المرحلة التي نمر بها، إضافة إلى أن المخططات التآمرية على الكرد، في مهادهم، ومكانهم، ووطنهم بات يشتغل عليها، على نحو غير مسبوق، إذ إن ثقافة الحقد على الكرد ووجودهم باتت تنتشر، وباتت دوائر المشتغلين من أجل محو وجود الكرد في المنطقة تتسع، حيث ثمة جهات إقليمية تعمل على هذه الملفات، بلا هوادة.
إزاء هذا الواقع بالغ الخطورة، فإن النخب الكردية مطالبة بالتحرك لنشر ثقافة الوئام بين أبناء شعبنا في روج آفا.
أسئلة كثيرة حملناها بهذا الصدد إلى البروفيسور المساعد “علي ميراني” الذي أجاب رداً على سؤال لنا عن التجربة التوحيدية التي تمت في العام 1970، وعن مدى استفادة الحركة الكردية من ذلك، بأنه
سبق تأسيس أول حزب سياسي كردي معاصر في 14 حزيران 1957، محاولات عدة ، تمثلت بظهور عدد لا بأس به من التجمعات الكردية والتي تغلفت بالمظهر الاجتماعي تارة، والرياضي تارة أخرى، ولكنها في حقيقة الأمر كانت تعبيراً واضحاً عن الخصوصية الكردية في سوريا.
وأضاف، لقد توزعت تلك التجمعات الكردية بين مدن الجزيرة وحلب والحي الكردي بدمشق، والذي كتب له أن يكون حاضناً للنشاطات الكردية بسبب قدم الوجود الكردي فيها إلى جانب توافد الشخصيات الكردية القومية بصورة مستمرة والإقامة فيها.
على الرغم من بدائية التجمعات الكردية وقتذاك، إلا أنها أدت دوراً واضحاً في بلورة الوعي السياسي لدى الكرد السوريين، وباتوا مستعدين لتأسيس حزب جماهيري معاصر قادر على قيادة نشاطاتهم القومية، لا سيما أن سوريا كانت تشهد تطورات مهمة حينذاك، أبرزها ارتفاع الشعارات العروبية بعد الاستقلال، الأمر الذي كان يعد جرس إنذار للكرد الذين وجدوا أنفسهم جزءاً من الدولة السورية في عام 1921 إثر التوقيع على اتفاقية أنقرة بين تركيا وسلطات الانتداب الفرنسي في سوريا.
فيما يتعلق بالمعايير والدعائم التي استند عليها التأسيس، وهل كانت لبناتها قوية أم لا؟ بحسب رؤية د. ميراني أن عملية التأسيس بالرغم من أهميتها الواضحة في تاريخ كرد سوريا، شابت فيها الكثير من النواقص.
يأتي في المقام الأول أنه كان من المفروض أن الأمر قد جرى في بقعة هي من جغرافية الأراضي الكردية وليس في مكان لجوء ضمن إحدى المدن العربية الكبرى، ومع أن ذلك تكرر كثيراً في حالات الأحزاب الكردية بصورة عامة، إلا أن ذلك يعد نقيصة في كل الأحوال.
ووضح د. ميراني، أن التباين الثقافي والاختلاف الواضح في أعمار المؤسسين أدى دورا بارزاً في سهولة انشقاق أول حزب سياسي كردي سوري، لا سيما أن عدم التمازج الفكري أثر سلباً، بل أن معظم هؤلاء لم يكونوا على دراية كافية ببعضهم بعضاً، ووحدها الظروف الحياتية كانت السبب في تلاقي بعضهم، إلى جانب أن التحاق أربعة شبان من الحزب الشيوعي في منطقة عفرين بالحلقة الأولى المؤسسة للحزب لاحقاً، لم تكن على نار هادئة إن صح التعبير، بمعنى أن النقاشات بينهم وبين الشخص الأبرز “عثمان صبري” كانت لابد أن تمتد أكثر فأكثر.
وحول أهمية هذا المولود الجديد في الحياة السياسية لكرد سوريا تحدث قائلاً، نعم، بالرغم مما اعترى عملية التأسيس من نواقص، إلا أن الإعلان عن ولادة الحزب كان حدثاً استثنائياً مميزاً للكرد السوريين، حتى أن الحزب توسع بصورة جيدة في مدة قصيرة، وعلى نطاق واسع، بل يمكن القول، إن كوادر الحزب وقتذاك كانوا الأكثر نشاطاً وفعالية طوال تاريخ الحركة الكوردية السورية، إذ انتمى مختلف فئات الشعب الكردي لصفوف الحزب، وكأن حلمهم في الدفاع عن خصوصيتهم القومية أصبح أمراً واقعاً بفضل جهود الشخصيات القومية الكردية.
بخصوص ظروف الانشقاق الأول، وأسبابه، والنتائج الكارثية التي آل إليها كان للدكتور ميراني نظرة أخرى إذ قال، كانت الحلقة المؤسسة للحزب هشة وغير قادرة على أن تكون صلبة ومتينة، بل كانت متأرجحة وتعاني الانقسام منذ اللحظات الأولى للتأسيس، الأمر الذي مهد للتشظي والتشتت بعد مخاضات عسيرة، بخاصة أن النظام السوري الحاكم وقتذاك، أدرك أنه من الضروري توجيه الضربات القوية للحزب الكردي، وسط تأييد بل تحريض من الأحزاب العروبية والأممية التي كانت قد وجدت لها عدداً من الأنصار والأعضاء في المجتمع الكردي مع مرور الوقت.
اعتقال قيادة الحزب في آب 1960 كانت المحنة الأولى الأشد على الحزب، والتي لم يستطع الحزب تجاوز آثارها السلبية حتى هذه اللحظة، بل هي أشبه بانقسام المسلمين بين الشيعة والسنة في صدر الإسلام وما لحق بالمسلمين من الانقسام حتى يومنا هذا إن صح التعبير.
وعلق قائلاً على ما تم بعيد كل ما تعرض له هذا المولود الجديد، الغريب أنه وبدلا من التعاضد والتوحد في وجه الجهة المتنفذة التي أرادت ضرب الحزب، نجد أن التفاف أعضاء القيادة حول أبرز شخصين هما رئيس الحزب د. زازا، وسكرتير الحزب عثمان صبري، والتخندق غير المبرر، والذي وصل إلى حد الاتهامات الرخيصة بكل أسف.
وحول تعمق هوة الانشقاق والتشرذم بين طرفي الخلاف أردف د. ميراني قائلاً، بات من الواضح أن افتراقا لا رجعة فيه يلوح في الأفق بين رفاق الأمس، إثر التجربة القاسية في المعتقلات، ومع هذا فإن هؤلاء خرجوا من السجن في مدد متفاوتة، إلا أن شللاً واضحاً ضرب بنية الحزب، وبات عاجزاً عن عقد محطاته الشرعية، وكأن فكرة الانتقام صارت تحرك كل جهة.
نعم، عقد عدد من المؤتمرات بعد تجربة الاعتقال بين الأعوام 1962- 1964، إلا أنها لم تكن مكتملة النصاب، بل عقدت بصورة مستعجلة دون أن يكون لقراراتها النتائج الحاسمة في وأد الخلافات المستفحلة في الحزب.
كانت الاتهامات الملفقة الجوفاء ضد الشخصية الأكثر نضجاً بين هؤلاء وهو د. زازا قد أصابته في الصميم، الأمر الذي أدى إلى إبعاده عن الحزب قسرياً، ما نتج عنه حرمان الحزب من شخصية فذة تملك بعدا فكرياً قل نظيره بين كرد سوريا حتى يومنا هذا، إلى جانب أمر آخر وهو أن شخصيات من الصف الثالث والرابع وجدت الفرصة سانحة للطفو على السطح والأخذ بزمام المبادرة والعمل على تثبيت أقدامها على الأرض عبر التسلق على أكتاف المناضلين الأوائل.
لقد شهدت الحركة الكردية بعد انشقاق 5 آب 1965 نكوصاً لآمال فئات عديدة من الكرد السوريين، إذ بدا واضحا أن التستر وراء الشعارات الخلبية صارت موضة رائجة عند هؤلاء الساسة، وسط موجة عارمة وسيل لا نظير له من الاتهامات، والادعاءات الفارغة بزعم أن كل جهة تتعاون مع النظام المستبد على حساب طموحات المحرومين.
وعن تحول الاختلاف إلى خلاف فقطيعة لما نزل ندفع ثمنها حتى الآن قال، نعم، حدثت اختلافات في الرؤى بين طرفي الانشقاق في مستويات عدة، ولكنها لم تكن تستوجب كل هذه التخوينات التي أضرت بالحركة كثيراً، ومع ما تقدم، فقد آثرت فئة واسعة من رفاق الحزب الابتعاد عن تلك الأجواء المشحونة، ومراقبة الأوضاع عن كثب دون أن تكون مشاركة فيه.
واختتم د. ميراني حديثه عن أهمية النداء التاريخي للملا مصطفى بارزاني في مواجهة خيار الانشقاق قائلاً، وسط تلك الحالة المزرية، جاء نداء مهم من كردستان العراق يدعو إلى اللحمة والتماسك، أطلقها قائد الثورة الكردية ملا مصطفى البارزاني في أواخر الستينيات، إذ خولته مكانته العالية بين الكرد السوريين وشعبيته الطاغية لأن يدعو هؤلاء الفرقاء إلى الابتعاد عن لغة التخوين والاستعداد لعملية توحيد جديدة.
على الرغم من اضطرار فئتي الانشقاق للحضور ومعهم عدد من الوطنيين الذين آثروا الابتعاد عن أجواء التشظي، وتوصيات ملا مصطفى لهم شخصيا بالتوحد، إلا أن عقلية التشظي كانت قد ترسخت بعمق في ذهنيات هؤلاء والذين سارعوا إلى قواعدهم الانشقاقية بعد مدة وجيزة من التوحد.
*الصورة منشورة بتصرف