مدونة آسو
البحث عن الأمان يُعيد سُوق العقارات في شمالِ شرقيِّ سوريا لأرقام خياليّة
البحثُ عن الأمانِ يُعيدُ سُوقَ العقاراتِ في شمالِ شرقيِّ سوريا لأرقامٍ خياليّةٍ
الإيجاراتُ وأسعارُ العقاراتِ تُسعّرُ بالدّولارِ الأمريكيِّ في شمالِ شرقيِّ سوريا
هديل سالم
مثل قطعة سكّرٍ في فنجانٍ، تذوب أمال الشّباب في امتلاك منزل الأحلام. فما شهدته محافظة الحسكة من طفرةٍ عقاريّةٍ رفعت على نحوٍ غير اعتياديٍّ أسعار الشُّقق والمنازل أخذت منحنىً تصاعديّاً ليصل إلى مستويات تبعث على القلق، وخاصّةً في ظلّ الظّروف الاقتصاديّة والحالة الميدانيّة المتوتّرة للمنطقة.
عَصَفَ ارتفاع أسعار العقارات، حلم الكثير من الشّباب ومحدودي الدّخل في امتلاك منزلٍ مستقلٍّ، لكن ما يؤرّق بال عيسى الشّابّ الثّلاثينيّ؛ هو العثور على منزلٍ أَجرُهُ رخيصٌ نسبيّاً يكون على مقربةٍ من مطعم الفلافل الذي يعمل به في حيّ المفتي بالحسكة، ويبقى قريباً من عائلته المكوّنة من والديه وزوجته وطفلين.
تترسم على عيسى ملامح الغضب والانزعاج، ويندب حظّه، لماذا لم يهاجر إلى أوروبا كأخويه؟ يتحدّث لمجلّة (صور) عن “جنون أسعار العقارات” كما وصفه، بعد أن رفع صاحب المنزل الذي يسكنه إيجاره من 65 ألف إلى 100 ألف ليرةٍ سوريّةٍ.
مع تدخل وتواسط الأصدقاء اتّفقا على85 ألف ليرةٍ، قيمة الإيجار بعد منحه مهلةً حتّى رأس السّنة الميلاديّة، على أن يزيد من الإيجار أو يُخلي المنزل.
يقول عيسى “المنازل ذو الفناء (حوش) على أطراف المدينة يطلبون قيمة إيجاره 50 ألفاً، رغم أنّ البيوت هناك تفتقر للصرف الصّحّيّ، والطّرق المعبّدة، وتوفّر المياه النّظيفة، وسأتكلّف بدل مواصلاتٍ”. ويضيف: “يئست من البحث، سأحرم عائلتي من أولويّات لأوفّر ثمن إيجار المسكن”.
فالطّفرة العقاريّة لم تَخلق استقراراً في أسعار العقارات في الحسكة فحسب، بل قفزت بها إلى مستوياتٍ قياسيةٍ وافتعلت أزمة سكنٍ منذ السّنوات الخمس الأخيرة بمحافظةٍ يبلغ تعدادها قرابة نصف مليون نسمةٍ، وبعد قضاء (قوّات سوريا الدّيمقراطيّة) بمشاركة التّحالف الدّوليّ على تنظيم “داعش” الإرهابيّ، وتوفّر الأمن والاستقرار نسبيّاً.
يُحمِّلُ عيسى، جزءاً من الأزمة على المتعهدين الذين يُقدِمون على بيع الشّقق على الهيكل دون تجهيزها للمغتربين “جشعاً منهم” كما وصفهم.
حيث بات كلّ من امتلك مقدارٍ من المال من المهاجرين إلى الدّول المجاورة والأوروبيّة؛ يشتري منزلاً أو شقة على الهيكل دون أن يكسوها، ما ساهم في غلاء أسعار العقارات، وتجاوز قيمتها الفعليّة، ودفع المنطقة لأزمةٍ سكنيةٍ تضاف إلى مجموع الأزمات التي تَعصِفُ بها.
حلمٌ يتلاشى
لم تُخفِ آهين (24عاماً) والمرتبطة منذ عامين من ابن خالتها؛ أن حلمها في امتلاك منزلٍ مستقلٍّ بدأ يتلاشى بعد محاولات بحثٍ طويلةٍ، وأنّ أصحاب الشّقق يَطلُبون ما نسبته من 50 إلى 70 في المئة، زيادةً عن السّعر قبل عامٍ.
تقول آهين لـمجلّة (صور) وارتسمت علامات الحيرة والتّخبّط على وجهها، “السّكن الخاصّ كان مطلبي الوحيد في بناء حياةٍ زوجيةٍ، يبدو عليّ الاختيار بين الزّواج بمن أحبّ والعيش في بيت العائلة الكبير أو حلم الاستقلاليّة”.
آهين واحدةٌ من بين آلاف الفتيات اللواتي تلاشى حلمهنّ بامتلاك منزلٍ مستقلٍّ، ونتيجةً لسوء الأوضاع الاقتصاديّة والحروب الدّائرة في بلدها منذ أكثر من 9 سنواتٍ في المنطقة، بدت ملامح “مأساةٍ” تطفو مع الأيام بحيث بات من الصّعب جداً على أصحاب الدّخل المحدود والمهجّرين، أن يسكنوا وسط مدينتي الحسكة والقامشلي.
ومع إطلاق تركيا والفصائل السّوريّة الموالية لها للعمليّة العسكريّة “نبع السّلام” في تشرين الأول/أكتوبر 2019، نزح أكثر من 40 ألف شخصٍ من مدينتي تلّ أبيض بالرقة ورأس العين بالحسكة أو (سري كانييه)، حسب تسميتها الكرديّة باتّجاه مدينتي الحسكة والقامشلي وبلدة الدّرباسيّة، وبعض القرى الدّاخليّة التي تبعد عن الشّريط الحدوديّ، فقط 10% منهم من قصد المخيمات ومراكز اللّجوء.
وغياب الرّقابة على المكاتب العقاريّة لها دورٌ أساسيٌّ وكبيرٌ في رفع أسعار العقارات بمزايداتهم واستغلالهم لظروف الأهالي، وعدم التّقيد بالقراراتٍ الصّادرة عن الإدارة الذّاتيّة حول أسعار الإيجار، حيث أصدرت مؤخّراً عدداً من القرارات والتّعاميم حدّدت من خلالها إيجارات المنازل بأسعارٍ لا تتجاوز 30 ألف ليرةٍ.
شيخموس محمد صالح مدير نقابة المقاولين في الحسكة، يتحدّث لمجلّة (صور) عن قرارٍ جديدٍ يقوم على منح تراخيص البناء للمتعهدين والمقاولين شريطة تجهيزه وتسليمه بشكلٍ نهائيٍّ (على المفتاح)، وقال في حديثه: “القرار قيد الدّراسة وسيتمّ تعميمه قريباً، إذ يساهم في حلّ جزءٍ من الأزمة السّكنيّة وتداعياتها والحدّ من جشع الدّلالين ومالكي المنازل”، منوّهاً بأنّ الهدف من القرار:”خلق توازنٍ بين العرض والطّلب في سوق العقارات، واستفادة المواطن بالدّرجة الأوّلى في ظلّ الصّعوبة في ضبط الأسعار”.
ومن طرق الالتفاف على قرارات الإدارة، يلفت “صالح” إلى أنّ المواطن المستأجر يُبرم عقد الإيجار بسعرٍ لا يتجاوز 30 ألفاً، لكنه حقيقةً يدفع 100 ألف ليرةٍ وأكثر، ويعرف جيّداً أنه يتعرّض لاستغلال، لكنه يمتنع عن تقديم شكوىً رسميّةٍ خشية مطالبة المالك بفسخ العقد وإخلاء المنزل.
خارطةٌ سكنيّةٌ
وتختلف عروض الشّقق والمنازل حسب موقعها ومساحتها وإكسائها، وبالتّالي تختلف أسعارها، ويُعتبر حيّ تلّ حجر (دوار الكنيسة)، وحيّ النّاصرة (ساحة ختو)، وحيّ الكلّاسة (شارع 24)، وحيّ الصّالحية (الشّارع العامّ)، ومؤخّراً أحياء المربع الأمنيّ من أغلى الأحياء في مدينة الحسكة، إذ يصل متوسط سعر المتر المربع من 100 إلى 140 دولاراً أميركيّاً، ويبلغ متوسط سعر الإيجار من 100 ألف إلى 150ألف ليرةٍ، بحسب مكتب “عفرين” العقاريّ لمجلّة (صُوَر).
وأدّى تدهور اللّيرة السّوريّة مقابل ارتفاع سعر صرف الدّولار إلى طفرةٍ في سوق العقارات، ويقول المقاول محمد إبراهيم فتّاح: إنّ تحطّم حلم الإنسان في تشييد بناءٍ كصفقة العمر، والتّوقّف عن إتمامه بعد خسارة 70 مليون ليرةٍ سوريّةٍ، كما قدّرها، وذلك قبل أربعة أشهرٍ.
باع فتّاح وشركاؤه عدداً من الشّقق السّكنيّة على المخطّط التّنفيذيّ في حيّ الكلّاسة بمدينة الحسكة وباللّيرة السّوريّة وفق عقودٍ مسجّلةٍ قبل البدء بعمليّة التّنفيذ توفيراً للسيولة النّقديّة وشراء الموادّ الأوّليّة.
يقول فتّاح لمجلّة (صور): “ارتفاع أسعار موادّ البناء واليد العاملة بالتزامن مع ارتفاع سعر صرف الدّولار الأمريكيّ، وبعد إتمام عمليّة بيع الشّقق سلفاً؛ بأسعارٍ تراوحت بين 7 إلى 9 مليون ليرةٍ سوريّةٍ لكلّ شُقةٍ، وتوقّف الحركة التّجاريّة، والعمل بسبب جائحة كورونا؛ كبدنا خسائر لن يَقدِر إلا الله على تعويضها”.
فتّاحٌ كغيره من المقاولين من تكبّدوا خسائر ماليّةٍ كبيرةٍ نتيجة تحمّل فرقِ العُملة الذي أحدثه الدّولار الواحد مقابل اللّيرة السّوريّة.
كما لم يخطر في بال سعيدٍ الرّجل الثّلاثينيّ الذي يعمل مدرّساً للغة الكرديّة (براتبٍ يعادل 100 دولارٍ تقريباً) أنه سيقضي وعائلته المكوّنة من خمسة أفرادٍ أشهراً أخرى في بيتٍ طينيٍّ هاجر أصحابه في قرية قمر الإيزيديّة القريبة من مدينة الحسكة، منتظراً “استقراراً في الأسعار”، وعن تأخّر تجهيز كسوة الشّقة التي تملكها العائلة في حيّ النّاصرة أرجعها إلى ارتفاع موادّ البناء والأيدي العاملة، وفرض حظر التّجوال الذي فرضته الإدارة الذّاتيّة على مناطق سيطرتها منعاً من تفشي (كوفييد19) المستجدّ.
يتحدّث سعيدٌ لمجلّة (صُوَر) “سأتكلّف 10 ملايين ليرةٍ لتجهيز الشّقة، فيما كان تكلفة إكسائها لا تتجاوز 4 ملايين سابقاً قبل تدهور اللّيرة مقابل الدّولار”.
المهندس المعماريّ والأستاذ في (جامعة روجآفا) الخاصّة قسم الهندسة المعماريّة إبراهيم شيخموس حسين رئيس شعبة المكاتب الهندسيّة في الجزيرة، أوضح في حديثه لمجلّة (صور)، أنّ مضاعفة أسعار العقارات إلى الضّعفين وثلاثة أضعافٍ سببه التّضخّم الذي أكلته العملة المحلّيّة، وتوقّف عمليّة التّشييد والإعمار بسبب ارتفاع وتذبذب أسعار موادّ البناء التي يتمّ تداولها بالدّولار.
إذ يتداول سعر صرف الدّولار الواحد بحدود 2100 ليرةٍ سوريّةٍ، وكان قبل عامٍ بحدود ألف ليرةٍ سوريّةٍ، فيما كان قبل 2011 تقريباً 47 ليرةً سوريّةً. أما موادّ البناء تُستورد عبر إقليم كردستان العراق بالعملة الأجنبيّة (الدّولار) وتُحسب باللّيرة السّوريّة، فسعر طنّ الحديد600 دولارٍ ما يعادل اليوم 1300000 ليرةٍ، فيما سعر طنّ الأسمنت 81 دولاراً ما يعادل اليوم 167 ألف ليرة.
ويقول المدرّس الجامعيّ حسين: “أسعار العقارات لم تتغيّر منذ بدء الأزمة، فمثلاً الشّقة التي قُدِرَت قبل ذلك بـ 2مليون عندما كان الدّولار بسعر 50 ليرةً سوريّةً، أي ما يعادل 20 ألف دولارٍ أمريكيٍّ، اليوم تُقدَر بـ 20 ألف دولارٍ أيضاً”.
نيران سوق العقارات تكوي النّازحين
فقدت عائلة سمو النّازحة من كوباني (عين العرب) إلى رأس العين أحد أبنائها المقاتلين ضمن صفوف (قوّات سوريا الدّيمقراطيّة)؛ بالقصف التّركيّ على قرية (داودية ملا سلمان) التّابعة لريف تلّ تمر، ما أجبر العائلة المؤلّفة من ثلاثة أبناءٍ وثلاث بناتٍ معظمهم متزوجين، على التّسليم بالأمر الواقع، والنّزوح مجدّداً.
عائلة سمو، حالهم كحال الكثيرين ممّن نزحوا من منازلهم قسراً، وفقدوا عزيزاً من أفراد عائلتهم، فُقرُ حالهم لم يمنعهم من العيش في منزلٍ للإيجار بعيداً عن مخيمات النّزوح، الغاية منه في مساعدة الحالة النّفسيّة لوالدتهم في نسيان آلام النّزوح وفقدان فِلذة كبدها.
يقول سمو الرّجل الخمسينيّ لمجلّة (صور)، دون أن تخفي ملامحه مرّ صبرٍ تجرعه، “هاجسي الوحيد هو تأمين مسكنٍ كريمٍ لأسرتيّ، ومع اقتراب موعد تمديد عقد المنزل أشعر كأنّي أواجه تهديداً في ظلّ ارتفاع أسعار الإيجارات”.
أما عبد القادر (44 عاماً) يعمل في صالون للحلاقة الرّجاليّة، نزح برفقة زوجته وأبنائه الثلاثة من رأس العين بعد احتلالها من قبل تركيا، والفصائل السّوريّة التّابعة لها في التّاسع من تشرين الأوّل 2019 إلى مركزٍ للإيواء داخل إحدى مدارس الحسكة، وبعد رحلة بحثٍ شاقةٍ، وجد شقةً سكنيّةً مناسبةً نسبيّاً ودفع حينها 500 ألف ليرةٍ سوريّةٍ أجار سنةٍ.
يقول عبد القادر لمجلّة (صور): “لم أتوقّع أن يرفع مالك المنزل قيمة الإيجار للضعف، مستغلّاً كثرة الطّلب جراء الّنزوح، في الوقت الذي رفض ربّ العمل زيادة أُجرتي”.
بينما يروي عامر المحيمد (47عاماً) متزوجٌ ولديه 6 أبناءٍ، كيف نزح عن مسقط رأسه رأس العين قبل سنة ليقول: “خرجنا من بيوتنا دون اصطحاب أيّ شيءٍ، خرجنا بأرواحنا تحت وابل القصف التّركيّ دون أن نعلم وجهتنا، سوى الابتعاد وأولادنا عن المنطقة المشتعلة، التجأنا إلى بيوت أحد الأصدقاء عدّة أيام ريثما عثرنا على سقفٍ يسترنا”.
وعن رحلة تنقله من منزلٍ استأجره بمبلغ 50 ألفاً في الشّهر ولمدّة سبعة أشهرٍ، وانتقاله إلى مركزٍ للإيواء بعدَ مطالبة مالك المنزل زيادة الأجرة إلى الضّعف وعدم قدرته على دفع المبلغ بسبب توقّفه عن العمل جراء كورونا وسط غيابٍ لعمل المنظّمات الإنسانيّة، يُعزّي نفسه بالقول: “ربّما لن تطول إقامتنا هنا، وسنعود قريباً إلى منازلنا الأصليّة”.
عائلة عامر مثل الكثيرين من فقدوا منازلهم وأعمالهم بسبب الاحتلال التّركيّ لمدنهم وقراهم، بالإضافة إلى إجراءات الحدّ من تفشي فيروس كورونا التي تُرخي بثقلها على حياة 450 عائلةً تجرّعوا ألام البقاء دون منزلٍ، واللّجوء إلى مراكز الإيواء داخل مدارس الحسكة، الذين سيتمّ نقلهم إلى المخيم الجديد “سري كانييه” الواقع شرق المدينة وفق الرّئاسة المشتركة لإدارة المخيم صالح الحميدي في تصريحاتٍ صحفيّةٍ، لتتحوّل الجائحة إلى كارثةٍ ممتدّةٍ وقاهرةٍ لهم، ويصبح حلم امتلاك منزلٍ كابوساً يهدم أمال الشّباب.
المادة يعاد نشرها بتعاون ومبادرة تشاركية بين شبكة آسو الإخبارية ومجلة صور وهي مواد تخص مجتمع شمال شرق سوريا
للقراءة من موقع صور هنا