Local
سري كانيه/رأس العين المدينة التي رسخت فيها قيم التعايش
سردار ملادرويش
على مدى ستة عشرة عامًا، كان يقابل محل والدي في حي الكنائس بمدينة سري كانيه\ رأس العين بمحافظة الحسكة السورية، محل الصائغ علو “أبو دلشاد”، بمحبة وصداقة وجيرة مفعمة. فما جمعهما تجاوز كل قيم زرع النزاعات الأهلية بين مكونات المجتمع، بل كانا كما الحياة في المدينة، أكثر تماسكًا، وكانت أشد حرارة وأكثر تماسكًا من فنجانين القهوة اللاتي كانا يحتسيان منها خمس مرات في اليوم على الأقل.
أبو دلشاد صائغ ومن المكون الإيزيدي، لم يكن صائغًا ذو صيت حسن فقط، بل كان إنسانًا معروفًا بأمانته، إلى جانب ذلك فنانًا مرهفًا بالأحاسيس، ويملك خامة صوت غنائية رائعة، وعزف رائع، كان أحيانا عندما أجلس لديه يخبرني بأن حلمه كان الموسيقى، لكن ظروف الحياة تغلبت على الحلم.
يربط أبي بالإسلام من حيث أنه مسلم، كان الدين لديه هو الإنسانية أكثر، فكان كرديًا أكثر من أن يكون دينيًا في الحقيقة كما الغالبية العظمى من الكرد المنتمين للفكر القومي، كما كان أبو دلشاد كرديًا أكثر من أن يكون إيزيديًا في الحقيقة ومن الكرد المنتمين للفكر القومي تجاه قضيتهم وإيزيديًا نقيًا، ولم يكونا وحدهما من المختلفين من حيث المذهب، لكن تجمعهما قيم إنسانية كثيرة أخرى، في ذاك الحي (حي الكنائس) كان محلهما، والذي يقطنه غالبية مسيحية، ويتواجد فيه ثلاثة كنائس (السريان، الكاثوليك، الأرمن)، أيضًا يقطنه تركمان وشيشان وكرد وعرب وطوائف مختلفة.
عشت في السوق والذي كان مزيج من حي سكني ويرتبط به سوق، مع والدي عقد كامل، لم أتذكر أن أحد كان يتطرق للطائفة أو القومية، إلا عندما يحل عيد أحدهم فندرك أن اليوم هو إما عيد للمسلمين أو عيد للإيزيدين أو عيد للمسيحين أو سواهم.
سبق أن عاش والدي ونحن في الحي المسيحي ذاته قرابة ١٥ عامًا، قبل أن ننتقل لحي عائلة والدي وهو حي كردي بغالبيته، كما أنني وكثير من كافة أطياف المدينة درسنا في مدارس السريان أو الأرمن أو الكاثوليك الخاصة في المرحلة الابتدائية، ولاحقًا هناك أجيال درست المرحلة الإعدادية في مدرسة السريان الإعدادية أيضًا، كانت هذه المدارس كما العديد من مدارس المدينة (الخاصة والحكومية) ترى فيها تنوعيًا كبيرًا، لأن مدينة سري كانيه\ رأس العين، عرفت بتنوعها وقدرتها واستيعابها باحتضان الجميع.
كان رفاق والدي منذ الشباب الكثير بينهم كما كان يروي لنا وعرفناهم مسيحيين أو شيشان، كان هذا المشهد عامًا في المدينة، يُشاهد في الملاعب، وفي المقاهي، وفي التجمعات، شعار المدينة لا فرق بين طائفة وطائفة، ودين ودين، وقومية وقومية، لكل إنسان معتقده الذي يحترمه الأخرين.
كان في المدينة نحو ثلاثة مقاهي مشهورة، يتردد لها أبناء المدينة، على كل طاولة ترى خليط متنوع من الأديان والقوميات والمذاهب، هذه اللوحة كانت ثقافة تمثل البلد.
عندما كان يحل عيدٌ في المدينة، كنا نشاهد وفود من طوائف أخرى تزور الطائفة أو القومية التي لديها عيد، كان هذا يُلاحظ حتى في عيد النوروز، عندما يزور ضيوف غير كرد، العيد ويجالسون المضيفين ويشاركونهم العيد، فعيد النوروز لم يكن يفرق بين كردي مسلم أو كردي إيزيدي!
بالعودة إلى الجار أبو دلشاد، وتأتي الكتابة للتركيز قليلًا على العلاقة الكردية- الكردية بين الإيزيديين الكرد، والمسلمين الكرد، أو الكرد الإيزيدين والكرد المسلمين في سوريا، وذلك لمحاولة ولو بسيطة لدرء بعض الحساسيات والتصعيد الخفيف الذي يتم محاولة إبرازه في المجتمع الكردي، وهو يضر التعايش بين الأهالي، وهنا قمت باختيار تجربة عايشتها على الأقل، كنموذج بين نماذج كثيرة للعيش المشترك من الممكن الكتابة عنها في سري كانيه.
منذ الطفولة وفي المدرسة بدأنا نعلم أن هناك لكل فرد خصوصية، فهناك في من حيث الخصوصية الدينية مسلمين ومسيحين، وقوميًا هناك كرد وعرب، وكرديًا هناك كرد مسلمون وكرد إيزيديون، وفي التنوع، هناك تركمان وشيشان في المدينة، وكان هذا الأمر ليس بسلبيًا بل يعطي تنوعًا جميلًا للمدينة، على عكس ما نشهده أحيانًا من صراعات طائفية أو دينية أو عرقية أو مذهبية بدت تطفو على السطح أخيرًا\ مؤخرًا، وبالطبع هذا الكلام لا يعني أن الواقع مثالي لأبعد الحدود، وأن السلطات بريئة من محاولة تشتيت الأهالي والتفرقة بينهم، لكن على مبدأ أن “العملة الجيدة تطرد العملة الرديئة”.
العلاقة التي كانت تجمع الصائغ علو (أبو دلشاد) بوالدي الساعاتي (نذير ملادرويش) كانت قيّمة، فكان أبو دلشاد صائغ معروف في المدينة، ذو سمعة حسنة، لديه زبائن من كل الطوائف، حتى الإيزيدين الذين يعيشون بغالبيتهم في أوربا يذكرونه ويتعاملون معه عند زياراتهم للمدينة وليس الإيزيديون فقط بل الكرد والعرب والمسيحين، وكان والدي لديه محل بيع وتصليح الساعات، كان كثير من زبائن أبو دلشاد وخاصة الإيزيديين زبائن والدي أيضًا، لم أر علاقة طيبة وودودة كما بينهما حتى اليوم، برغم وفاة والدي، إلا أن أبو دلشاد مازال يحمل له كل الود والطيب.
كثيرًا ما كنت اجلس مع أبو دلشاد عندما كنت مع والدي في المحل، لم أر فيه يومًا سوى الكردي النقي والمحب لقوميته ولكل الناس، إنسانًا مع الجميع، ففي محله لا تستطيع أن تحدد هوية أبو دلشاد، حيث ملتقى العرب والكرد، المسلمين والمسيحين، الشيشان والأرمن والإيزيدين، كان لديه أصدقاء موسيقيين يزورونه للحديث عن الموسيقى، وهو يعزف على آلتي العود والكمان (الآلة التي لطالما أحببت أن اتعلمها منه ولم يحصل)، فهو عازف بارع على العود والكمان، كما كان لديه رفاق في لعبة “الشطرنج” حيث رقعة الشطرنج تبقى لساعات يجالسها العديد من رفاقه، فهو لاعب شطرنج بارع ورفاقه من مكونات أخرى كذلك، كانت رقعة الشطرنج بتنوعها هي التنوع الحقيقي الذي زرع المحبة بين أبناء المدينة الواحدة.
كان المجتمع الإيزيدي بغالبيته يعيش في ريف المدينة، بحكم عملهم بالزراعة، وفي السنوات الأخيرة انتقل العديد منهم للمدينة، في حين أن الأيزيديين في رأس العين والمنطقة عامة، اتجهوا للهجرة إلى أوربا منذ نحو ٤ عقود حتى في كل قرية أو منطقة إيزيذية بقي بضع عائلات فقط، وفي الفترات الأخيرة أصبح العديد من الإيزيذيين يمتلكون إراضي زراعية، البعض كان يزور المنطقة من أوربا وفتح استثمارات في المنطقة.
كانت علاقة والدي بكثير من الايزيدين قوية، فكان صديقه وعلو المشترك المرحوم “رشاد قاسو” وهو شاب ايزيدي استطاع أن يكّون علاقات صداقة قوية مع العديد من أبناء المدينة خاصة الكرد غير الايزيديين. استطاع رشاد وأبو دلشاد كمثاليين من المجتمع الإيزيدي بناء جسر علاقات مع الأطياف الأخرى، فشكل هذا تجانسًا يزيح أي حديث عن صراعات تفتعل حديثًا بسبب الحرب التي تعيشها المنطقة.
يولد الإنسان وهو ملتزم في الحياة بانتماء كتب عليه بولادته، لكن القيم الإنسانية في الحياة من الممكن أن تحافظ على خصوصية الإنسان وتجعله يدافع عن انتمائه، وتساعد الإنسان ذاته في القدرة على التعايش مع الحياة والاستمرار فيها والعيش بمحبة وسلام، والرؤية للحياة بألوانها المختلفة، بالتمسك الدائم بالتعايش.
*المقال منشور بالاشتراك بين شبكة آسو الإخبارية ومؤسسة إيزدينا”