مدونة آسو
في الذكرى الثالثة لتفجير القامشلي لا تزال الحقائق منثورة… وذكرى نافية لا تفارق مخيلة أبناءها
“تلك الإجابة التي بحثت عنها على مدار عامين، دون أن أجد من يجرؤ على أخباري بها، وقعت حروفها لاحقاً على قلبي كحبات من الجمر، إذ لطالما تساءلتُ كيف كانت هيئة أمي بعد مماتها وجلست ساعات طويلة أبحث في صور ذلك التفجير ومقاطعه المنشورة على صفحات التواصل، علني أرى مشهداً لها، لكني لم أفلح؟”، هكذا بدأت “سحر” ذات الـ 26 عاماً حديثها عن أمها “نافية” التي فقدت حياتها في تفجير شارع عامودا، أكبر تفجيرٍ هز مدينة قامشلو / القامشلي خلال سنوات الأزمة.
وكمن يستعيد ألم لحظات الفقدان الأولى، أكملت حديثها بحسرة “ويا ليتني لم أعثر على الإجابة قط، حتى تبقى ابتسامتها عالقة في ذهني، وكي أخبر أطفالي عن جدتهم التي لم يحالفهم الحظ، لكسب القليل من حنانها”. قالت ذلك وهي تحاول أن تسرد ما عاشته عائلتها بعد ذلك التفجير الذي أودى في تموز قبل ثلاث أعوام، بحياة أكثر من 67 مدنياً، اختفت جثث بعضهم، وتغيرت خارطة حي، بعد أن زالَّ جزء منه ومن ذاكرة من بقي حياً من أبنائه؛ مثل “سحر” التي لم ترى والدتها بسبب وجودها في إقليم كردستان آنذاك.
27 تموز 2016
لم يكن صباح ذلك اليوم الصيفي المشمس عادياً على أبناء مدينة الحب، كما يفضل أهالي قامشلو/القامشلي تسميتها، هناك في شارع عامودا، كان ضجيج السيارات يختلط بأصوات موسيقى المحال ويكتظ الشارع بالمارة والباعة المتجولين، حينها لم تكن “أم محمد” (نافية) تعلم ما ينتظرها، وكيف استطاع الموت أن يتسلل إلى حيهم، متستراً على هيئة شاحنة مفخخة يقودها انتحاري من داعش، حصدت أرواح العشرات منهم وجرحت آخرين بالمئات.
في إحدى البيوت البسيطة في ذلك الحي، كانت تتأهب “أم محمد” للخروج إلى عيادة طبيب الأسنان. تناولت مع عائلتها الفطور باكراً وبقيت منشغلة كربَةِ منزل بما ستعده لغدائهم بعد العودة من زيارة الطبيب. قبيل خروجها طلبت من ابنها الصغير “علي” 11 عام، أن يريها صور أبنائها وأحفادها المقيمين في ألمانيا وكردستان.
أثناء خروجها سألها “علي” الصغير “أمي ألن تأخذيني معك؟” إذ لطالما كانت تصحبه معها في كل زيارة. فجاءه ردها “لا يا ولدي، والدك يريد منك البقاء في المنزل هذا اليوم”، ثم خرجت.
يقول “علي” “لدى خروجها ذهبت إلى شرفة المنزل، لأراها تلتفت وراءها وتنظر إلى بناء منزلنا. اعتقدت في البداية، أنها نسيت شيئاً، لكنها أكملت طريقها، وبعد عدة خطوات عادت والتفت مرة ثانية، ووقفت تتأمل المنزل أكثر فأكثر، بعد برهة رأيتها ترحل مسرعة”.
وصلت “أم محمد” إلى العيادة والتقت هناك بامرأة كانت هي الأخرى تحمل ذات الاسم “نافية”، لكنه لم يكن القدر المشترك الوحيد بينهما. جلست “أم محمد” إلى جانبها واستندت إلى الحائط معها، وتبادلتا أطراف الحديث، ولم تكن إلا دقائق معدودة حتى وقعت الكارثة.
يقول “علي” “بقيت أتساءل قليلاً، تُرى لما طلبت أمي أن ترى صور أخوتي في هذا الصباح المبكر؟ ولماذا وقفت تتأمل المنزل هكذا؟ لم أعلم حينها أن أمي كانت تودع منزلها التي تعبت سنوات طويلة حتى بنته مع أبي”.
كانت لحظات قليلة، فصلت بين خروجها من البيت ووصولها إلى عيادة الطبيب، اعقبها ذلك التفجير الذي حول الحي إلى مشهد مرعبٍ؛ أمهات تصرخ، ودماء تغطي المكان، هنا من يصرخ بحثاً عن ابنته، وهناك من يناجي لإخراج أخيه من تحت الأنقاض، بعدها بدأت صافرات الإسعاف تدوي في أرجاء المكان. هذا ما نقله لاحقاً شهود عيان عن اللحظات الأولى لذلك التفجير “وكأن القيامة قامت في تلك اللحظة” وفق قولهم.
كان انفجاراً عنيفاً لم تشهده المدينة منذ بداية الأحداث التي حملت معها الكثير من التفجيرات لأهلها، فبحسب نائب الرئاسة المشتركة لهيئة المالية في مقاطعة الجزيرة، “عبد الله حسو” والذي صرح لاحقاً لوسائل إعلام محلية فإن “التفجير الإرهابي ألحق أضراراً بأكثر من 350 منزلاً ومحلاً تجارياً آنذاك”.
يتذكر علي الصغير أنه كان جالساً أمام المنزل منتظرا أمه حين وقع أرضاً، ليبدأ بالصراخ “أمي، أمي، أين أمي؟!” ثم هرع إلى جدته: “جدتي أريد أمي! لقد خرجت من المنزل، لربما أصيبت في هذا الانفجار”، فترد جدته “اهدأ يا ولدي أمك ستعود”.
وصل “أبو محمد” و “أديبة” شقيقة “نافية” الوحيدة سريعاً بعد سماعهم خبر التفجير، وبدأوا في البحث عنها. حينها كان أحد المسعفين قد وجد المرأتين تحت ذلك الجدار الذي أزهق روحيهما، لقد حملتا ذات الاسم وذات المصير، ونقلتا معاً إلى براد حي العنترية شرقي المدينة، ليتسنى لذويهما التعرف عليهما فيما بعد.
بعيداً من هناك كان أبناء نافية في إقليم كردستان وألمانيا يعيشون دقائق وساعات طويلة من الانتظار، وكأن كل ثانية من ذلك اليوم “تكوي أرواحهم” وفقما تتذكر “سحر” الأخت الكبرى من بين أخوتها، “كان الوقت يمشي ببطءٍ شديد، بقينا متأهبين حتى اللحظات الأخيرة لسماع خبر ربما يطفأ النار في قلوبنا الخائفة من الأسوأ”.
في ذلك الوقت كان المدنيين وقوات الأمن التابعة للإدارة الذاتية يسارعون إلى مكان المجزرة لنقل الضحايا وعشرات الجرحى إلى المستشفيات لتلقي العلاج، ولم يمر وقت طويل حتى أعلنت داعش مسؤوليتها عن التفجير الإرهابي، الذي لم يفرق بين الأطفال والرجال والنساء وترك أثاره على المكان وحجارته.
تقول “سحر” “منذ اللحظة الأولى لسماعي الخبر شعرت بأن أمي رحلت بعيدا عني، ورغم ذلك كان لدي بصيص أمل صغير بأن اسمع صوتها مرة أخرى وبقيت أردد في نفسي “أمي ما بتروح هيك، ما رح تروح بلا ما تودعني”.
فيما بعد أكدت قوات سوريا الديمقراطية، أن الانفجار حدث بتخطيط وأوامر مباشرة من القيادي “الحسين أبو الوليد” الذي كان يدير الوحدات المخفية التي تنفذ العمليات الانتحارية الذين كانوا متمركزين في إقليم الجزيرة، والذي قتل في عملية خاصة نفذتها وحدات مكافحة الإرهاب YAT في دير الزور السورية، في 10/تشرين الأول من عام 2017.
تسرد “سحر” تفاصيلاً أخرى مما جرى معهم حينها “وصلتني رسالة من شقيقتي الصغرى “عبير” تقول لي فيها، أمي رح ترجع أنا متأكدة، لم أستطع الرد عليها ولم أكن قادرة على إخبارها بأن الحياة بعد اليوم ستصبح بلا ألوان وأن الأوجاع قد نصبت خيامها في قلوبنا إلى أمد طويل”.
كانت “عبير” في الـ 16 عاما آنذاك، تعيش لحظات عصيبة مع أخيها الأكبر “محمد” في ألمانيا، في كل لحظة يعلن عن اسم جريح وشهيد في الانفجار ولا شيء عن أمهم.
تقول “عبير” بأنها كانت تحاول الاتصال بأبيها وأقربائها لحظة تلو الأخرى، لكن من دون جدوى، بينما كان “محمد” جالساً يراقب هاتفه بصمت شديد عله يرى خبراً يطفئ لهيب قلبه.
في ذلك الوقت في قامشلو وبعد بحث طويل في الكثير من المستشفيات القريبة من مكان التفجير تلقت “أديبة” مكالمة هاتفية، تخبرها بوجود جثة لإحدى السيدات في براد العنترية، لم يتم التعرف عليها.
تقول أديبة، “طوال حياتي كلها لم أواجه يوما حمل لحظات قاسية طويلة ومليئة بالرعب كما ذلك اليوم، عند دخولي المستشفى شعرت وكأن رائحة الموت ساكنة في جدرانه، لم أكن اسمع شيئاً سوى صرخات النساء من كل حدب وصوب وكأنني أعيش كابوساً، وفجأة ودون أن أشعر أين أمشي وقعت عيني على ثوب أخضر مزين بالورود، وصرخت يا ألهي أنه ثوب أختي، رباه أرجو أن أكون مخطئة، ثم اقتربت أكثر ولم أستطع تحمل ذلك المشهد المريع، نعم كانت جثة شقيقتي “نافية”، وما أذكره بعدها أني وقعت أرضاً ودخلت في غيبوبة عدة ساعات”.
أبناء الفقيدة تلقوا لاحقاً الخبر “الصادم والمؤلم”، من دون أن يرحل عنهم ألم فقدان أمهم رغم مرور ثلاث سنوات، ذلك أن جل ما يتمنونه هو أن تتم محاسبة حقيقية لمن تساهلوا بدخول الشاحنة على المدينة وتعويض جميع المتضررين بشكل عادل.
بعد أيام قليلة من الانفجار أعلنت قيادة الأسايش العامة، عن إعفائها لعدد من مسؤوليها من مهامهم على خلفية التفجير الذي ضرب الحي الغربي، كما خصصت مبلغاً مالياً لتقديم المساعدات. بينما تحدثت هيئة المالية في مقاطعة الجزيرة عن توزيع مساعدات وتعويضات مالية على نحو 213 عائلة متضررة من التفجير.
لكن بقيت الحقائق منثورة دون أن يكون هناك تحقيق رسمي يضع أبناء المدينة في صورة ما جرى، لاحقاً كشف أحد المواقع السورية، عن مصادر عاصرت قيادات من داعش، كيف جرى التخطيط بحرفية في مدينة الرقة، وكيف أن التنظيم اشترى شاحنة حديثة بـ 50 ألف دولار، حتى يتلافى أي احتمالات لتعطلها، ومن ثم كلف انتحاري صغير في السن بالتدرب على قيادتها والدخول إلى وسط مدينة الرقة ماراً من شارع تل أبيض الذي تتقارب حالة الازدحام فيه مع ما هي الحال في شارع عامودا وقت الذروة.
شارع عامودا الذي كان قلب قامشلو، والذي انطلقت منه شرارة المظاهرات التي نادت بالحرية والسلام ذات يوم، حاول الإرهاب جعله رمزاً للذكريات الأليمة. اليوم وبعد مرور ثلاث سنوات يعيد أبناؤه الحياة إليه من جديد؛ فجوهر ذلك الصيدلاني الخلوق كان قد قتل حينها في صيدليته التي كانت أحد ملامح الحي، لكننا نجد اليوم إن الصيدلية أُعُيد بنائها من قبل صيدلي آخر، حرص على إعادة تسميتها باسم جوهر من جديد.
هذه المادة منشورة بالتعاون بين شبكة آسو الإخبارية ومنظمة بيل للامواج المدنية، وهي نتاج ورشة إعداد صحفي/ المتدربة زوزان حسن
*الصور منشورة بتصرف