Connect with us

مدونة آسو

سري كانيه / رأس العين: من النزوح للتهجير… آلام أهالِ أثقلهم عبء الشتات

نشر

قبل

-
حجم الخط:

سردار ملادرويش
لم يكن المشهد قبل الأخير للطائرات وهي تنسج خيوطًا في السماء، يوحي بأمر جيد لأهالي بلدة سري كانيه / رأس العين، في شمال وشرق سوريا. فكانت تلك الخيوط نذير شؤوم وبدء الاستعداد لآلم جديد، وحزن مستدام، وتهجير قسري، ليس كسابقه من نزوح على أهالي المدينة، على الأقل استطاع الأهالي العودة من بعده.

يقال إن الاعتياد على الشيء يصبح سهلًا على الفرد، لكن ليس الاعتياد في المأسي. ففي تاريخ 08 تشرين الثاني لعام 2012، كان أهالي سري كانيه، مع موعد مأساة أولى خلال الأزمة السورية في المدينة، عندما قامت مجموعات مسلحة تتبع “الجيش السوري الحر” تحت مسميات وشعارات راديكالية، بعدد 48 فصيل باجتياح المدينة، تحت مبرر “تحريرها”، لكن مِن من! في حين كانت المدينة آمنة وخالية من الصراعات العسكرية، بل يمثلها حراك مدني.

ذاك المشهد الذي كاد يُنسى، عندما عاد الأهالي بعدها بسنوات للنهوض بمدينتهم، والعيش فيها بأمان جديد، ما فتئ تحول في يوم التاسع من تشرين الأول لعام 2019، إلى واقع أسوء بكثير مما كان متوقعًا، فهنا الأمر مختلف، فالأهالي أمام خطر الجيش التركي وفصائل مسلحة تتمثل بـ “الجيش الوطني السوري”، غالبيتها يحمل فكرًا راديكاليًا، وانتماءات سابقة لتنظيمات متطرفة إرهابية.

كانت إشارات الطيران عصر التاسع من تشرين الأول 2019، تعطي الأهالي شعور خطر قائم، خاصة وإن الاحتلال التركي وفصائل الجيش الوطني السوري، لديها سجل سيء في عفرين المحتلة منذ عام 2018، فكان قرار الأهالي الفرار من المدينة، بحكم أنه الخيار الأمثل لإنقاذ حياتهم من قتل وموت واعتقالات وانتهاكات محتمة، وبالفعل تمام الساعة الرابعة عصرًا، بدأ الطيران التركي بقصف المدينة، دون رادع ولفتح المجال أمام فصائل مسلحة باسم المعارضة السورية تحمل الضغينة والسفك والوعيد للأهالي، فكان المشهد أقرب للحشر، طوابير سيارات مصطفة تبحث عن مخرج للفرار من الموت، أهالي يقطعون كيلومترات بعيدة هربًا من موت قادم، وجوه حزينة، تحمل في تجاعيدها أيام قادمة صعبة ورحلة شتات صعبة.

كان الخوف يلزم الأهالي سلك الطريق الجنوبي للمدينة باتجاه تل تمر والحسكة، فهو أضمن من الطريق الشرقي الحدودي باتجاه الدرباسية، حيث من الممكن أن يعرضهم لخطر القصف وهجوم الفصائل عبر الحدود، في حين كان الخط الغربي للمدينة خطر لتواجد الفصائل في المنطقة بعد احتلال بلدة تل أبيض بريف الرقة.

لم تكن تلك المشاهد بالسهلة على أبنائها الذين يعيشون في الخارج، فالمشاهد القادمة من المدينة وواقع الأهالي، كان يترك الأثر الكبير في نفوس أبنائها في الخارج وهم يشاهدون المدينة أمام مشهد دمار وفراغ وتهجير لسكانها!.

على مدى سنوات قبل الاحتلال كان الأهالي قد بدؤوا بتأسيس حياة جديدة في المدينة، واهتمام بالواقع الاقتصادي والبنية التحتية، والإعمار، وعودة الاستقرار للمدينة، على يد أبنائها ومن كافة المكونات، عدا قبل الاجتياح بأشهر، كان القلق يحوم نفوس مجتمع المدينة، مع إطلاق تركيا تهديدات دائمة باجتياح المدينة، وهذا يعني دمار جديد، وبالفعل استطاعت تركيا عقد اتفاق بين رئيسها رجب طيب ايردوغان والرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، تحت حجة حماية تركيا لحدودها، وانسحاب الجيش الأمريكي، وحدث أن أخلت الولايات المتحدة نقطة تواجد لها غربي سري كانيه في قرية “تل أرقم” ليبدأ الهجوم التركي باحتلال المدينة، في اتفاق على أساس أن يشمل مساحة بضع كيلومترات بالعمق لكنها توسعت خلال الاحتلال، ومن يستطيع تصديق اتفاق مع دولة لديها ضغينة تجاه مجتمع شمال وشرق سوريا.

لم تساعد الانتهاكات وشكل الاحتلال الذي قامت به تركيا في عفرين باتفاق مع روسيا، في تدخل المجتمع الدولي، وكان هذا بؤس جديد لأهالي المنطقة الذين تركوا لمصيرهم أمام آلة قتل، وربما لولا الضغط المجتمعي، وتدخل قوى سياسية أمريكية لما توقفت تركيا في الأساس عند احتلال تل أبيض وسري كانيه، فبقيت تركيا بعد احتلال المدينتين تشير لاجتياحات جديدة!

منذ احتلال عفرين وبعدها تل أبيض وسري كانيه، تشكل الفصائل المسلحة التابعة للمعارضة السورية، الصورة الأسوء بين قوى تدعي أنها تحمل شعار الحرية، فمنذ تاريخ الاحتلالات حتى اليوم، ظهرت عمليات قتل وخطف وتهجير واستيلاء على الممتلكات، وثقتها منظمات ومؤسسات دولية حقوقية وإنسانية، أخرها تقريرين للجنة التحقيق الدولية حول سوريا، استطاعت أن تصف بعض التقارير الدولية التواجد التركي بالاحتلال، كما قامت الولايات المتحدة أخيرًا بوضع فصيل أحرار الشرقية التابع للجيش الوطني السوري والمدعوم من تركيا في قوائم الإرهاب.

يعيش أهالي سري كانيه بغالبيتهم اليوم الشتات، في مدن داخل شمال وشرق سوريا وخارح البلاد، بينما يعيش العديد من العوائل في مخيمات تفتقر لأبسط مقومات الحياة، لم يترك لهم التهجير القسري فرصة حياة كريمة، فبقي الأمل بالعودة الأمنة هو ما يصبر الأهالي، ومن لم يصبر وعاش القهر دون استطاعة التأقلم فقد حياته، حيث تشهد المدينة كل يوم عبر صفحات التواصل الاجتماعي رحيل أبنائها، بظروف يتداولها الأهالي بأنها نتيجة الظروف القاسية التي حلت بها وعدم قدرة التحمل.

صحيح أن خيار الأزمة في سوريا لم يكن خيار جميع السوريين، لكن لأهالي سري كانيه، ظرفان فرضا نفسيهما بثقل عليهم، والاثنان مرتبطان بمأسي وظروف حياتية صعبة، برغم أنه برز مشهد إيجابي عبر تكافل المجتمع الذي يضم مكونات مختلفة مع كرد وعرب وكلدوآشوريين وسريان وتركمان وإيزيديين، حيث يحاول الأهالي دائما التركيز على ذاك التكاتف المجتمعي والنسيج المتنوع، في أمل بالعودة، وإدراك أن حياتهم الطبيعية مرتبطة بعودتهم، بدون اختلافات، بل بتماسك وتعايش سلمي.

ينتظر أهالي سري كانيه اليوم أي اتفاق في سوريا بفارغ الصبر، لعله يشمل عودتهم، لذا يحملون شعارات سلمية بحق العودة، والمطالبة الدائمة بتوافق دولي ينهي الاحتلال عن مدينتهم، ويخرج الفصائل المسلحة، ويعيد المستوطنين في مدينتهم من مدن أخرى لمدنهم، حيث يشعرون أن قضيتهم باتت سياسية في الصراع، خاصة مع قيام الاحتلال التركي بتدمير المجتمع بعد تهجير الأهالي، واستقدام مستوطنين للمدينة في محاولة لطمس هويتها، وأيضًا خلق تغيير ديمغرافي في المدينة يؤثر بازدياد في الصراع السوري مستقبلًا بدل البحث في الحلول.

بعد عامين على احتلال سري كانيه، وجميع الصور والمشاهد القادمة من فساد وانتهاكات وتدمير للبنية التحتية، واعتقالات تعسفية، وتغييب قسري، فإن كل هذا يتطلب أن يكون هناك مساعي جدية لاستقرار المنطقة، وعودة أهاليها عودة آمنة، والتفكير بأن تكون مسار للحل على غرار مناطق أخرى في سوريا، كأن يعود المدنيين دون تواجد عسكري، فالبناء فيها واستقرارها يحتاج لسنوات عمل وجهد، وليست المنطقة بمعزل عن مدن سورية تواجد فيها الإرهاب، فسري كانيه أيضًا وتل أبيض كما عفرين تشهد فكر راديكالي يفرض نفسه بعكس طبيعة وتنوع المجتمع الحقيقي، ما يساهم بتفاقم المشكلة وانعدام الاستقرار.