مدونة آسو
“الإعاقة الحقيقة… إنما في القلب والعقل”
نبال محمد
هذه المادة من نتاج دورة تدريب القصة الصحفية في مركز فينيقيا، بالتعاون مع شبكة آسو الإخبارية
كانا يتناولان طعامهما في غرفة صغيرة، بدت متواضعة، لكن النظافة وحسن الترتيب كان يطغيان على المكان. قبل ذلك أشعرني الدفء الذي لفح وجهي حين فُتِح الباب، بحجم المودة بينهما.
“صالح وخالصة” زوجان من ذوي الاحتياجات الخاصة، التقيا قبل 9 سنوات أول مرة. ورغم أن بنيتهما الجسدية لا تساعدهما في الحصول على عمل، وسط ظروف معيشية بالغة الصعوبة، إلا أن الحياة لم تسلبهما الإرادة و الأمل. بل بدا الحافز لديهما متقداً لتحدي مصاعب الحياة والتغلب على نظرة المجتمع.
صالح ذو الستين عاماً، ينحدر من مدينة عامودا، ولد في بيئة انهكها الفقر، تنقل مع عائلته منذ الصغر بين عدة أحياء من القامشلي قبل أن يقوده قدره للزواج من خالصة، وهما يقيمان حالياً في بيت بحي الزيتونية، قيَّدَ ملكية نصفه على اسمها، كنوع من العرفان والثناء لزوجته.
“والأذن تعشق قبل العين”
في العام 2014، توفيت أم صالح، سنده ومصدر قوته في الحياة، بدت الوحدة موحشة، لا يستطيع تحملها. يقول صالح: “بعد تلك المحنة، أدركت أن علي التعرف على شريكة، اتقاسم معها ما تبقى من عمري”.
وقد حدث ذلك، ذات يوم، عندما كان ينصت إلى برنامج للمسابقات على إحدى الإذاعات المحلية؛ امرأة من ذوي الاحتياجات الخاصة تتحدث عن نفسها ومعاناتها التي لا تقل عن معاناته، جراء شلل في أطرافها السفلية.
يقول صالح: عندما سمعتها لم أتردد في الاتصال والمداخلة، ليس من أجل المشاركة في المسابقة، بل بهدف معرفتها والسؤال عن حالها.
حينها، بدت الفرحة على كادر الإذاعة لدى سماعهم صوته، وبدأوا بمعاتبه على غيابه الطويل، ذلك أنه كان دائم المشاركة في برامجهم، إلا أنهم لم يكن يعلمون أن وفاة والدته، كانت سبباً في ابتعاده عن كل ما يثير شغفه.
في الجانب الآخر، تقول خالصة إنها ظنت للوهلة الأولى أن صالح تحدث أثناء مداخلته، عن وفاة زوجته، لا أمه، وتتذكر أنها كانت تتساءل بينها وبين نفسها، كيف له أن يعيش بعدها؟ ومن سيهتم لأمره؟!.
بعد مداخلته تلك، وانتهاء الحلقة، حصل صالح من أصدقائه في الإذاعة على رقم جوال خالصة، اتصل بها مباشرة، وشرح لها حالته، وكيف أن صوتها سحره وأشعره بوجود شبه بينهما، ولم تنقض المكالمة تلك، حتى عرض عليها الزواج.
“حياة سعيدة”
رغم أنها ليست المرة الأولى التي يروي فيها الزوجان قصتهما، إلا أنهما يحافظان على ترك مساحة من الحرية، كل منهما للآخر، ويُنصتان إلى بعضهما بانسجام، وكأنها تروى للمرة الأولى. كلماته الأخيرة عن تلك المكالمة، كانت كفيلة بأن ترسم على شفاهها ابتسامة عريضة، وعيون مكللة بالرضا.
لم يكن طريق الزواج بالنسبة لصالحة خالياً من المتاعب، ذلك أن أهلها رفضوا الفكرة في البداية؛ بالنسبة لهم كان الأمر، يدور حول أسئلة لا يجدون إجابات لها، إذ كيف لها أن تتزوج من شخص لديه حالة أشد صعوبة من حالتها؟ وما عساه لشخص مثل صالح أن يقدم لابنتهم، وهو لا يقوى على مساعدة نفسه؟
تقول صالحة: “كنت مستعدة أن أحارب العالم كله من أجل أن أهتم به واحفظ له بيته”، لكني في الوقت عينه، لم أكن لأخرج عن طاعة والدي، فيما لو أصر على الرفض، وكنت سأفضل أن أدعس على قلبي”.
رأت خالصة في زواجها من صالح، الذي شهد شداً وجذباً لثلاثة أشهر، قبل أن يتم، استقراراً وسكينة لها، لم تشعر بهما من قبل.
“رغم أن حياتنا بسيطة إلا أنني سعيدة جداً”.
طفولة صعبة
عاش صالح حياة مليئة بالمصاعب والمشقات، فرغم ولادته سليماً معافى، دون علامات تدل على وجود خلل في نموه، إلا أن والدته لاحظت أنه يعجز عن الوقوف على قدميه بعدما تجاوز السنتين من عمره، وحينما بلغ الـ 17 من عمره، أصابه التيفوئيد، ففقد في إثره إحدى عينيه، ومع مرور الأيام تقلص النور في عينه الأخرى، وأصبحت الرؤية شبه معدومة. حينها بدأ رحلة علاج تنقل فيها من القامشلي إلى الموصل، لينصحه الطبيب هناك، بالسفر والمعالجة في بلد أوربي، متوقعاً أن تكون نسبة شفائه 50 بالمئة، بعدها عاد مع شقيقه إلى البيت خائباً، فيما منعته ظروفه المادية لاحقاً، من السفر والتداوي خارج البلاد. ورغم الحرمان الذي كتب عليه من نعم كثيرة، بسبب حالته، لكنه يرى أن الحياة وهبته نعماً ليس لدى الكثير من الأصحاء مثلها.
عزيمة وإصرار
حرم صالح من التعليم في صغره، إلا أنه لم يسمح لحياته أن تمضي عبثاً، وبفضل عزيمته وإصراره تعلم أشياء عديدة، كان يخلق منها نوعاً من البهجة تزين حياته.
برع صالح في كتابة الأغاني، وتأليف الشعر وتنظيمه باللغة الكردية، ومن خلال مساعدة بعض الأصدقاء، استطاع جمعها في دفتر صغير يحتفظ به في كيس شفاف، داخل خزانته. اللافت أنه يستطيع إخراجه وإعادته إلى مكانه بدقة، دون أن يتعثر بشيء في طريقه.
إلى جانب ذلك، يبرع صالح في العزف على آلة البزق، وقدوته الموسيقية هو المغني والعازف الكردي الكفيف، الراحل “سعيد كاباري” إذ يقول إن لأغنيته “ليلى قاسم”، مكانة خاصة لديه، وقد تركت، خلال مرحلة سابقة من عمره، أثراً عميقاً في قلبه، و يتذكر أنه كان دائماً ما يردد “:لو كان لي عينان، أرى بهما، ما تزوجت إلا من فتاة باسم ليلى”.
محطات كثيرة، استطاع فيها صالح أن يثبت قدراته وينافس أقرانه من الأصحاء، ذلك أنه كان مدرباً في العزف على آلة الطنبور وكان يحصل على مردود ماديّ من عمله ذاك، ويتذكر أيضا حادثة تعطل دراجتهما الكهربائية، التي تعينهما على قضاء حاجات البيت، وكيف استطاع تحديد العطل فيها، بحكم هوايته في صيانة الإلكترونيات، رغم عجز أصحاب المهنة عن إصلاحها.
لا يُخفي صالح حاجته للعمل وإلى مورد، يؤمن له ولرفيقة دربه، حياة كريمة، ورغم أنه بلغ من العمر ما بلغ، إلا أنه يسعى لإضفاء ألوان جديدة على حياته، ويقول: “الإعاقة الحقيقية ليست في الجسد، إنما في القلب والعقل”.