أصوات نسائية
ثقافة “العيب” تحرم نساء شمال شرق سوريا من الميراث
نور الأحمد
كنت في السادسة من عمري عندما تحدثت للمرة الأولى بقصد أو بمحض براءة طفولية عن حصتي من مال أبي الذي لا يزال على قيد الحياة، وعلى الرغم من أنني لا أذكر تفاصيل كلماتي ومطالبتي بحقي حينها، إلا أنني وجدت نفسي ما زلت أتساءل عما إذا كان هذا الحق سيسري عليّ ونساء عائلتي كما إخوتي الذكور أم لا؟ فأنا بطبيعة الحال أؤمن أن حق النساء بالميراث واجب شرعي وقانوني يجب أن يلتزم به الجميع، ولا يجب أن نصل لمرحلة المطالبة به حتى! ولكنني ومنذ بدأت بالانخراط بهذا المجتمع، أقصد مجتمع شمال شرق سوريا الذي ولدت ونشأت به، أصبحت أكتشف عوالمه المتناقضة، وأدركت أن الحديث عن حق المرأة بالميراث يعتبر أمراً معيباً! فما بالكم بالمطالبة به؟!
أعتقد أن من أكبر التحديات التي تواجهنا كصحفيات يعملن على المواضيع النسوية أو تلك الحساسة للنوع الجندري ككل، هو صعوبة طرحها، خاصة في مجتمع يغلب عليه العُرف والعادات والتقاليد، على حساب القوانين أو حتى الدين في بعض الأحيان! حتى النصوص الدينية يتم تجاهلها أو تأويلها بما يخدم الهيمنة الذكورية المطلقة على حساب نساء هذه البقعة الجغرافية.
وبغض النظر عن تطرقنا في المجال الإعلامي (المقصّر جداً) إلى يومنا هذا بطرح هذه المواضيع، فمن التحديات الأخرى التي تواجهنا وإن استطعنا أن نحاكي الواقع كما هو وانتزعنا حرية الحديث عن هذه القصص، متحملات جميع ردود الفعل السلبية من عموم الناس المختلفات والمختلفين عنا بالفكر، فإن الوصول إلى شهادات نساء قد كسرن قواعد ثابتة منذ آلاف السنين، وضعت من قبل أشخاص ماتوا ولم يتركوا سوى إرثهم المرتبط بثقافة “العيب” أكثر من أي شيء آخر، هو أمر صعب للغاية.
عندما أحاول جاهدةً الحصول على مقابلات مع النساء اللواتي يرفضن مشاركتي قصصهن ونشرها في إحدى المواقع الإعلامية التي أعمل معها، سواء أكانت مكتوبة أو مسموعة، رغبة مني بنشر الواقع كما يحدث على ألسنتهن، حتى وإن لم نجد لها حلاً، على الأقل يجب أن تنشر هذه القصص!
ولكن عندما أواجه بالرفض من النساء أنفسهن، أقول لنفسي: لا يهم إذاً إن تحدثنا أم لم نتحدث طالما أن معظم النساء في الجزيرة السورية رافضات لأي تغيير يخدمهن ويؤمن لهن سبل عيش أفضل وبحرية أكبر! يرفضن الحديث عن أبسط حقوقهن، مثل الحق في الميراث على سبيل المثال لا الحصر.
كان من الممكن أن تسيطر عليّ أفكار اللامبالاة، وأن أتوقف عن العمل على المواضيع التي تهم بنات جنسي، إلا أنني وفي كل مرة أجد إحداهن تأتي مستنجدة، “كغريقة متمسكة بقشة”، تقول أريد أن تنقلي تجربتي، أريد أن يصل صوتي للعالم أجمع، تماماً مثلما حدث خلال رحلة البحث التي مشيت بها محاولة إيجاد شهادات لنساء حرمن من حقهن بالميراث.
نجوى (اسم مستعار) فتاة بمقتبل الثلاثينيات من عمرها، تنحدر من محافظة ديرالزور، انفصلت عن زوجها الذي كان يعنفها، وتعيش في بيت إحدى أخواتها، كانت تلك الغريقة التي شاركتني قصتها، من خلال إرسال رسالة نصية على ذلك التطبيق الافتراضي الأزرق الذي صار جزءاً لا يتجزأ من حياة كثير منا، وأستطيع تصنيفه كعالم موازي لعالمنا الحقيقي الذي نعيش، ولربما لا نستطيع تصنيف أي من هذين العالمين هو الحقيقي بالفعل!
جاءت رسالة نجوى الخاصة، بعد أن شاهدت منشوراً لي على فيسبوك أطلب فيه المساعدة في الحصول على شهادات لنساء من بقعتنا الجغرافية هذه حول الحق في الميراث، والتي بالطبع لم تستطع كتابة قصتها في التعليقات، وذلك خوفاً من النقد والوصمة المجتمعية التي لا ترحم الأنثى، ولربما الشتائم التي ستنهال عليها! لأن الصفة العامة للردود على منشوري كانت تدور حول فكرة أنه من المعيب التطرق لهذا الموضوع، وأن تعب آبائنا، إخوتنا الذكور هم أحق منا فيه، وأن من لا تتنازل عن ورثتها لأخيها كأنما تأكل مالاً محرماً! و أنها ستدفع ذلك المال على صحتها وأولادها!
وعلى الرغم من أن معظم النساء اللواتي علقنّ على المنشور، واستنكرن طرحي لهذا الموضوع، وأن من تتحدث عنه وتطالب به هي فتاة عديمة التربية، إلا أن هناك عينة صغيرة جداً من التعليقات، تكاد تعد على أصابع اليد، أقرت بحقهنّ كنساء وكل النساء بالإرث، وأنه أمر لا يجب أن يتم النقاش به، لكن أردفت إحداهن أنه من الأفضل التنازل عن هذا الحق لحفظ ماء وجههن، وتجنباً للكثير من اللغط والمشاكل.
أتفهم اندفاع الكثيرات، خاصة تلك النساء التي علقت بأن الأخ يجب ألا يُحارب من أجل المال!، ربما مشاعر الحب لإخوتهنّ تجعلهنّ ينسين حقهن الطبيعي، والذي من غير الطبيعي خلق نزاع بين أفراد العائلة الواحدة عليه، وهو ما حدث مع نجوى التي تعيل نفسها من خلال العمل كممرضة براتب لا يكفيها لنصف الشهر، والتي حرمها شقيقها من ورثة أبيها، ويدفعها للنزاع والشعور بالعجز لعدم مقدرتها على مقاضاته والحصول على حقها الشرعي والقانوني، بسبب وجوده خارج البلاد منعماً بعيش كريم هو وعائلته.
أعرف أن هناك الكثير من النساء مثل نجوى، ولربما وضعهن مأساوي أكثر، وأعلم أن حديثي وغيري عن حقنا نحن النساء بالميراث والذي لا يجب أن يناقشنا به أحد، وقد تم سلبه باسم العُرف، هو أمر ربما لن يغير شيء في الوقت الحالي على الأقل، لكن هذا لن يمنعني عن فقدان الرغبة والإصرار على التطرق لكل ما يعني المظلومات من النساء في هذا الفضاء المتناقض، الذي يأخذ ويعطي كيفما يشاء ومتى شاء، ويعامل الآخر بطريقة مجحفة، فقط على أساس جنسه، ليس إلا!
*الصورة من النت