محليات
أربعة عقود من الشغف بمهنته… حكاية سائق باص من الدرباسية
أفين علو
أربعون عاماً من العمل المثابر، وما يزال عدنان “Ednanê basê” شغوفاً بنفس الدرجة لمهنته
يولد المرء وتنمو لديه بذرة الحب والشغف لموهبة أو مهنة أو صفة تولد معه وتكبر، ومن ثم يروي كل شخص هذا الحب بطريقته وأسلوبه لهذه البذرة في الحياة.
لا أحد يرضى بأن يفني ما تبقى من عمره لأجل وسيلة نقل يملكها، لكن عدنان عزيز أو كما يسميه الجميع (Ednanê basê)، وهب كل وقته وجهده لهذه الوسيلة، واستطاع بذلك أن يترك أثراً في قلوب كل من عرفه، إذ يمتلك عدنان باصاً للنقل منذ الثمانينات، وقد نذر نفسه لخدمة أهل مدينته في “الدرباسية”.
ما يميز عدنان ذو الـ (60) عاماً عن باقي السائقين، هو ابتسامته اللطيفة وحبه للخير الذي استطاع أن يجذب بهما ويأسر قلب كل من عرفه، أو سمع به.
يعمل عدنان على الباص ذاته منذ عام 1987، ويعرف “بأبي الفقراء والمحتاجين”، بحسب ما حدثتنا عنه السيدة “نجاح عبد” وهي إحدى اللواتي شهدن على هذه المسيرة الحافلة بالعطاء والخير في مدينة الدرباسية.
وكان في المدينة ستة باصات للنقل وضعت لخدمة الأهالي في الثمانينات، ومن بينهم باص عدنان، ذهب الجميع وفرقتهم مشاغل الحياة وبقي عدنان مدة 40 سنة، متمسكاً بهذه المهنة.
يسوق عدنان باصه متنقلاً بين أحياء المدينة وعيناه المفعمتان بالأمل، تريان بأن القادم أفضل، وهو الذي حفظته الطرقات وكل حي في المدينة، يتفاءل رغم كل الصعاب.
يذكر عدنان موقفاً طريفاً حصل معه، يقول: ” ذات يوم وضعت قوالب الثلج (البوز) داخل الباص، وأخفيتها بقطعة قماش أبيض، صعد أحد الركاب ورأى المشهد فظن أنني أحمل معي جثة، هرع في النزول، دون أن يلتفت خلفه، أو يسمح لي أن أوضح له بأنها قوالب بوز وليست جثة”.
لم يمنعه العمل الشاق على مر السنين من الشعور بالسعادة، لأنه استطاع بثمرة مجهوده وعرق جبينه أن يكمل مسيرة أبنائه في التعليم والتفوق.
لكنه يرى أنه آن الأوان لأن يهب نفسه لخدمة من أرهقه أجور المواصلات، لتلك الفئة التي تحتاج لمن يشعر بوجودهم ويحنو عليهم، مقابل مبلغ زهيد.
في الثاني من كانون الأول من عام 2020 قررت المديرية العامة للنقل والمواصلات في إقليم الجزيرة تأمين باصات نقل للأهالي، وذلك بعد زيادة الشكاوى المتكررة من قبل الأهالي عن استغلال بعض أصحاب سيارات النقل.
وفرت الجهات المعنية التابعة للإدارة الذاتية باصات للنقل الداخلي في مدينتي قامشلو وعامودا، بينما كانت تفتقر مدينة الدرباسية لهذه الوسيلة.
يقول يوسف توفيق وهو من أهالي الدرباسية: “إن وجود باص عدنان وحده غير كافٍ لخدمة المدينة، ولا يستطيع لوحده تلبية حاجات كافة السكان وخاصة الطبقة الفقيرة”.
من جهته قال الرئيس المشترك للجنة البلديات والبيئة في مدينة الحسكة “رستم بكر”، بأنه لم يتم تخصيص باصات النقل الداخلي في مدينة الدرباسية نظراً لصغر المساحة الجغرافية للمدينة وكون الدرباسية تخطيطها فرنسي الشكل ويأخذ شكل مربع.
في حين أكدت إحدى المعلمات اللاتي يدرّسن في المدارس التابعة لهيئة التربية الحكومية، بأنهم يذهبون كل شهر بحافلة عدنان إلى الحسكة لاستلام رواتبهم من التربية بالرغم من توفر وسائل النقل الأخرى لكنهم يشعرون بالارتياح معه، بالإضافة لأنه يأخذ مبلغاً زهيداً منهم مقابل نقلهم إلى المدينة.
يهتم عدنان بنظافة مقاعد الباص ويمسحها يومياً، ويقول: “يجب ألا يقل اهتمام الإنسان بمهنته عن اهتمامه لنظافته الشخصية، لذا على كل صاحب مهنة أن يعتني بمصدر رزقه، وبذلك يؤدي واجبه ويحافظ على رزقه لسنوات طويلة.”
ويضيف: “سرعة الحافلات أقل من السيارات الحديثة وهي تستغرق وقتاً أطول، لكن لأن الباص وسيلة قديمة وأنا قديم في هذه المهنة، فإن البعض يرون السفر رحلة ومتعة.”
وفاء لشغف قديم
ونظراً لارتفاع سعر صرف الدولار وأسعار المحروقات انعكس هذا الأمر على رفع الأجور لكافة الخطوط، وبالتنسيق بين مديريات النقل واتحاد السائقين والمرور في شمال وشرق سوريا.
فيما يرى عدنان بأن قرار رفع أجور المواصلات يرهق الأهالي، ويعتبره قراراً خاطئاً ويجب عدم رفع أسعار الأمور الخدمية وخاصة الوقود.
وفيما يتعلق بصيانة أعطال الحافلة يروي عدنان بأنه أصبح خبير في هذا المجال وعندما يحتاج إلى المساعدة، يساعده أبناء المدينة ذوو الخبرة، سواء كانت مدفوعة الأجر أو مجانية، لأنهم يعتبرونها من التراث الشعبي.
ويقول: “بحسب البطاقة نحصل على مادة المازوت مرة واحدة في الأسبوع، وعندما ينفذ أقوم بشرائها من السوق بسعر أعلى، لكنني لا أرفع التعرفة مثل السائقين لأنني أعتبر عملي صديق عمري وأتحمل الأعباء.”
في أصعب الظروف والمحن
أما عبد الباقي عمرو يعبر عن سعادته بوجود جار مثل “عدنان” في حيه، حيث يتواجد في كل الأوقات ويساعد الناس دون مقابل، وعن طيب خاطر، فيقول: “في أحد الأيام، التي قدر فيها لزوجتي أن تلد، لم أجد غير باب جاري عدنان لأطرقه، والذي يقدر الحالات الإنسانية لدى الناس ويقف إلى جانب أخيه الإنسان في أصعب الظروف، كما بقي معنا إلى آخر لحظة، وشاركنا فرحة قدوم طفلي إلى الحياة”.
وتحدثت الطالبة “جيهان حسن” لشبكة آسو الإخبارية، عن “خير رفيق في الطريق”، كما تصف السائق عدنان، فقالت: “على الرغم من الخوف الذي يرافقنا خلال فترة الامتحانات، وتحمل مشقة الطريق الطويل من الدرباسية إلى الحسكة، إلا أن الابتسامة المرسومة على وجه السائق عدنان ومعاملته اللطيفة تبعث الهدوء والطمأنينة إلى جانب تقديمه النصح لنا كالأب، هذا الأمر أطلق السكينة في نفوسنا، وراحة البال”.
ويتمنى عدنان أن يحافظ جميع السائقين على مبادئ المهنة، ويجعلوها في خدمة الناس أولاً وأخيراً، وألا ينسوا بأن هذه العمل قبل أن يكون مصدر رزق لأحدهم، فهو وسيلة لخدمة أهلهم وبلدهم على حدٍّ سواء”.