مدونة آسو
عطرٌ جديد في كتاب… قراءة في ديوان (للعشق رائحة أخرى) للشاعر: علي مراد
أفين علو
(للعشق رائحة أخرى) عنوان مجموعة شعرية للشاعر علي مراد، والتي صدرت في مصر عن دار ببلومانيا للنشر والتوزيع، بتصميم الغلاف لـ دعاء بطيخ، وجاءت المجموعة في (106) صفحة من القطع الوسط، و(53) نصاً بين طويل وقصير وومضة.
حملت عناوين مثل: (مناديل الضجر، المطر دموع الله، إله ينطق بجراحه، سال الدم من السبورة، أبحث في دمي عن سواك، …)
قبل هذه المجموعة الشعرية كان قد صدر للشاعر مجموعتان شعريتان:
(انكسار الماء في ذاكرة الزجاج، و ماتريوشكا.)
يبدأ الشاعر علي مراد ديوانه بـ:
لديّ ما يكفي من زهر الألوفيرا
لرتق ثوب الحرف
ولإطالة عمر القصيدة
وما أنا إلّا ظلك ..
يبدو جلياً للقارئ أن الشاعر حاول أن يبني عالماً آخر بالشعر، بالخيال وبالأمنيات، بتفاصيل غاية في الدقة والتصوير، وهو يعرف كيف يأخذ المتلقي الى أماكن غريبة نوعاً ما، بناها في خياله الخصب ورسمها كيفما شاء، ليقدم لقارئه ابداع شاعر استسلم للقصيدة حتى طاوعته في كتابتها، فهو يبني عوالم حقيقية وآنية وحاضرة وبعيدة في نفس الوقت، ويرسم درباً من صور ومشاهد تكاد تكون نادرة في ذاكرة القارئ:
ولأنكِ أناي .. وكلّي
ولأنكِ أكبر من الخريطة
وأصدق من النّحيب
أعمّدكِ بالحبر وأدفنكِ فيَّ..
في الكثير من صفحات الديوان يستنشق القارئ عطر أنثى أو نساء كثيرات، هنّ يدفعن الشاعر ليكتب عن سيرة قلبه وقلوبهن، عن الأمل والحب، عن رغبات مؤجلة وأحلام تتحقق وأخرى تموت، عن أشيائهن التي يرصّعن بها جمالهن، حزنهن وسعادتهن، يبكي حيناً قريبًا وأحياناً بعيداً، هي ذكرياته، هي رسائله وحنينه وحبه.
أجمع ذكرياتك الحلوة في صرَّة يسهل
دفنها بجوارك ..
أسماءكِ الكثيرة
أقراطَ أذنك الثلاثية الأبعاد
ضحكاتك المثيرة
وطباعكِ الساذجة الظريفة ..
لغة علي هي لغة شاعر محترف وجريء، متمكن من أدواته التي يبني بها الصور الشعرية والعالم الشعري الخاص به، هو يعرف حقائق الشعر ودهاليز عالمه الجميل، وحروفه الكثيرة في شتى مجالات الشعور، يعرف كيف يطلق عنان خياله بعيداً، ويعرف كي يعود به بين يديه، كأن يكون في شباك غرفته أو يطرق الباب عليه، ليبدع بصور جديدة اكتشفها عميقا هناك، هناك حيث هو، ليكون ذاك الخيال الغريب نوعاً ماً، على هيئة ومضة أو سحراً خفيفاً بين صفحات الديوان:
كل امرأة تغفو على صوتك
تنهض من نومها شاعرة
ثم تقضم قلبك.
عوالم صارخة ومليئة بالقلق، كأنه يخوض حروباً، ويسيل ظلال دمه من بين الصفحات، يسيل مع البارود وعطور المحاربين.
أنا الناجي الوحيد من المذبحة
أنا نصف قتيل عائد من ميادين الدم
من سؤال المحققين الصعب
ما (اسمك)
أنا الشهيد المعلق على مدخل السوق
لا يراه العابرون..
وأنا مسدس ماء وألعاب بسيطة
وأنا من طرده الله من قلبك
ومن المقبرة يوم الأربعاء.
في أكثر من مكان يذكر الشاعر كلمة (حبر) هذا الحبر العطر الذي كتب به ديوانه:
(اللون.. الحبر فقط)
(ثمة فتاة تمتطي جوادا من الحبر)
(جميل أن يكون الحبر نزفك الأزلي)
كأنه يقول الحبر دمي.
جاءت الصورة دقيقة وكثيفة ومستوحاة من بيئة كردية نقية، يلتمسها القارئ من خلال الماضي والأماكن والذكريات والأسماء:
أنا العامودي الشقي أشعل النار في بيادر الشعير
وأسرق باستيق الأناضول..
أنا خيل يئن تحت ثقل التبغ الأشقر
ومن لثة القطارات أخلع أسنان المحطة
لئلا تخاف دجاجات (خجية)
عندما تمر عربات العسكر
أنا راعي أضواء (الكمالية)
وأغنامي ترعى في كرم (ملا حسن)
وتستحم بماء (حمدونة)
أنا الآري .. الأومري الذي لا ينام.
يبدو أن هذا الشاعر العاشق لكل تفاصيل مدينته وتفاصيل قلبه وروحه التي سجدت كثيراً في محراب الحنين والأمل، وعلى مدى سنوات، يبحث عن ظلال الغائبين والحاضرين لتكون ملاذه في زمن الغياب، كأن حدود وطنه حدود روحه وحدود حكايات الجدّات عن أبطال مضوا وهم يبكون، وقبل أن تشرق شمس ثانية لا تشبه تلك التي ركض اليها الشاعر قبيل المغيب وهو يحمل قصائده ودموعه في حقيبة صغيرة على كتفيه, حقيبة تشبه رائحة أخرى للعشق.