مدونة آسو
ضحايا الذاكرة
زينة عبدي
تلك الأحذية المصفوفة على الرفوف الخشبية ماتزال على حالها، أحذيةُ بمقاساتها المختلفة يكسوها غبار الرحيل، الأرجوحة المعلَّقة على شجرة التوت الضخمة في فناء الدار تتأرجح مع الريح، الثياب المعلَّقة في الخزانة ماتزال مطوية على الشكل نفسه، تقول “خجي” ذات ال 84 عاماً وهي تلف مسبحتها والحزن يغمر عينيها المبلَّلتين بالدموع: “لا أنسى ضحكة أحفادي عندما كنت ألاعبهم في تلك الأرجوحة، لن أحرِّكها من مكانها، ستبقى تلك الأحذية في مكانها، وثيابهم معلقة كما تركوها، لكنني سأظل أنفضُ الغبار عنها”.
كل أغراض بيتها تشير إلى ذكرياتٍ معينةٍ، أحيانًا تنسى “خجي” أنَّ أولادها تركوها بسبب ظروف الحرب القاسية وهاجروا إلى أوروبا، كأن تنادي ابنها البكر “رودي” أن يساعدها في تحضير الغذاء أو تنادي ابنها “شيار” أن يُحضِر لها أدوية السكري التي تتناولها بعد وفاة زوجها منذ 20 عاماً، تقول “خجي” وهي تضغط بأصابعها على عينيها وهي تبكي: “ليلة أمس ناديت ابني “شيار” ليجلب لي أدويتي، تتكرر هذه الحالة معي دون أن أتعود أنَّ أولادي سافروا”.
تتجوَّل “خجي” في البيت و تتلمّس أغراض أولادها تقول بابتسامةٍ ترسم شفَتيها: “هذه طاولة ابني عندما كان يدرس البكالوريا، هذه دفاتره المدرسية التي مازالت محفوظة في مكانها وتلك دراجته النارية لن أحرِّكها حتى يعود هو ويضعها في أي مكانٍ يريد”.
خبز التنّور الحار, السمن العربي، الزبدة، الحليب ومشتقاته جميعها باتت تُشتَرى من أسواق النواحي القريبة من قرية دكشوري (التي تبعد عن مدينة القامشلي حوالي 15 كم تقريباً وعدد السكان فيها قليل لا يتجاوز الـ 30 أسرة وتشتهر بالزراعة البعلية)، تقول “خجي” بوجعٍ: “أتذكر جيداً عندما خبزت آخر مرة قبل أربع سنوات، كنت أجهِّز عجينتي من الصباح الباكر، أما الآن أشتري حاجاتي من المدينة حتى إنني أحياناً أنسى نفسي عندما أطبخ فأطهو وجبةً وكأنَّ أحداً من أولادي لم يسافر”.
الجميع رحل من هذه القرية، لم تعد قرية “دكشوري” كما كانت على حد قول أهاليها، قريةٌ يسكنها كبار السن وقلَّة من الشباب، تغيَّرت ملامح ونمط الحياة الريفية، لم يعد هناك رعي أو حتى تربية الحيوانات إلَّا ما ندر. تقول “خجي” باستياء: “لن يعود “شيرو” يرعى الأغنام، حتى إنّني بِعْتُ أغنامي قبل خمس سنوات، رحل شباب القرية ولم نعد نهتم بزراعة الخضار, كان شبابنا يدَ عونٍ لنا”.
في أعلى المرج حيث كانت تلتقي نساء القرية ويحتسينَ الشاي وسط الأحاديث المتبادلة وضجيج الأطفال، تحوَّل إلى هدوءٍ يقتصر على اجتماع قلّة منهنَّ بعد موجة الهجرة التي عمَّت، تقول “فاطمة”: “رحلت جاراتي وأقربائي الذين طالما تعوَّدنا أنْ نشكي ونواسي همومَنا وأحزانَنا، حيث الأحاديث والضحك كان يجمعنا على طرف ذلك المرج”.
ترقيع جدران البيوت المهدمة وأسقفها، السهر في ليالي الحصاد وتعاون شباب القرية وتكاتفهم بات ذكريات وأحاديث متناقلة بين السكان الباقين في القرية.
كان آنذاك يتعاون شباب القرية في أيام الحصاد كالكمون مثلاً دون الاعتماد على استئجار عمال والذي قد يكلِّفهم مبالغ مالية لا يسدِّد تكاليف زراعتها.
تقول “خجي” وهي تمطُّ طرفَ شفَتيها الرّفيعَتين بأسفٍ: “لم يعد يهتم أحدٌ بالزّراعة منذ رحيل الشباب إلى ألمانيا وأوروبا، حتى إنَّ المحاصيل يتم تقسيمها بيننا وبين المزارع الذي يتكفَّل بزراعتها والذي قد يكون غريبا عن القرية”.
سافر “هفال” (جار خجي) الذي كان يطارد الذِّئاب التي كانتْ تهاجم القرية، تقول “خجي” وخطوط الحزن ترسم جبينَها المُقطَّب: “لم أعد أهاب الخروج ليلاً مثل قبل، حيث كان “هفال” يحرس القرية ببندقيته دون أن يهاب شيئاً”
لم تعد تهتم فاطمة برعاية بقراتها الثلاثة ولا بتربية دجاجاتها أيضاً، لأن ذلك يكلّفها مجهوداً جسدياً، لم تعد قادرةً على القيام بكل هذه المهام لوحدها وتقول: “بعتُ كل الدجاجات والبقرات بعد رحيل ابني “حسن” الذي كان يبتاع معي البيض والحليب في سوق المدينة، كان ذلك مصدرَ رزقٍ لنا”.
كشَّاش الحمام “أحمد” كان يملأ حارتَنا بأصوات صفيره من الصباح الباكر، هو الآخر سافر إلى بلجيكا، تقول فاطمة وهي تشير بناظرَيها إلى سطح دار جارتها: “ذلك البيت الصغير المهدَّم كان مأوىً للحمام، حيث كان أحمد يقوم بتعديلها وترتيبها كلما لمحته فوق السطح”.
تلاشت ملامح وروح الحياة الصاخبة والجميلة التي كانت تتمتع بها الحياة الريفية قبل أربع سنوات، حتى مظاهر الرياضة وتحضيراتها في ملعب “دكشوري” الترابي بات يقتصر على لعب بعض الشباب والأطفال في القرية، بعد أن كانت تقام دوريات على مستوى القرى، تقول “فاطمة” وهي تحدِّق بنقطةٍ غير معينةٍ: “هاجر شباب فريق كرة القدم (زانين) وعائلاتهم ولم يبقَ إلَّا القليل منهم، الكل رحل طلباً لمصدر رزق لهم وحياةٍ مريحةٍ بعيدةٍ عن ألم وهمِّ هذه الحرب”.
أزقة القرية الضيقة باتت خالية، ضجيج الأطفال وصراخهم كان يصدح، اختفت الملامح الريفية في “دكشوري” وتحوَّل صخب الحياة وتفاصيلها إلى سكونٍ وصمتٍ لا يهزها إلّا ذهاب وإياب سكانها القليل العدد، تقول “خجي” وهي تشير بسبابتها إلى فناء دارها: “لا أصدِّق حتَّى الآن أنَّ أولئك الأطفال الذين كانوا يلعبون هنا رحلوا، أحنّ إلى ضجيجهم رغم أنني كنت أطلب منهم أحياناً الابتعاد واللعب في مكان آخر”.
ولا يختلف حال “أبو أنس” الثمانيني وزوجته السبعينية عن حال كبار السن ممن بقيوا وحيدين في القرية والذين يمكثون بمفردهم في بيتٍ طيني مهدَّم، حيث عاش “أبو أنس” حياته كلها يتيم الأب والأم، فيقول “أبو أنس” وهو جالسٌ على عتبة داره سانداً ظهره على الجدار الطيني بتنهيدةٍ غارقة بالحزن أرهقت حنجرته: “اشتقت لأبنائي، ألا يعرفون طريق الرجوع لمن أنجبهم، ألا يدركون مدى لهفتي لرؤيتهم مجدداً؟”.
لم تكن “أم أنس” في يوم من الأيام تتصّور أنها ستبقى وحيدة مع زوجها في بيتٍ طيني بالٍ حسب قولها، حيث الجدران الرثّة تكاد تقع عليهم من شدة اهترائها وتحتاج إلى التدعيم بنوعٍ من الطين الممزوج بالتراب و القش، كان شباب القرية آنذاك يقومون بتدعيمها وإصلاحها لتبقى مشيدة وفي أحسن حال حتى السنة التالية، تقول “أم أنس” بمرارةٍ بنبرة صوتِ شجيّة وهي جالسةٌ فوق سجادتها المهترئة تبصر سقف بيتها المبني من جذوع الأشجار, تعدِّل وشاحها الخمري: “الولد مصباح البيت المعتم، لو كان أولادي هنا الآن لرمَّموا لنا دارنا ومنعوه من الهدم، لم تعد لنا طاقة على القيام بأي شيء”.
“أنا آسف يا أمي… لأنني هاجرت ولم أعد أعلِّق معطفي خلف باب بيتنا” هكذا يصف أنس (الابن البكر لأبي أنس) حاله بعد مغادرته لقريته وأرضه في رسالة يبعثها لوالديه، حيث لقمة عيشه أجبرته على السفر، مردفاً: “سأعود للقرية ونعيش حياتنا البسيطة معا”.
يقول والد أنس (بعد استماعه لرسالة ابنه أنس) والشحوب والحزن يخيِّم على وجهه “ولكن هيهات، فأولادي قد تغيَّروا كثيرا… ليسوا كما كانوا في السابق… تغيَّروا إلى الأسوأ… وذلك ليس بذنبهم، فقساوة الحياة توجِّههم أحياناً”.
هذه المادة منشورة بالتعاون بين شبكة آسو الإخبارية ومنظمة بيل للامواج المدنية، وهي نتاج ورشة إعداد صحفي/ المتدربة زينة عبدي