مدونة آسو
جمال الوجوه يتحد مع الموسيقى والطبيعة في قرى ديريك
شفان إبراهيم
على أطراف شمال ديريك، وقفت الجميلات بصحبة أصدقائهن، يرسمون بمخيلاتهم غداً أخضراً كجمال ما حولهم من هبة إلاهية تتجسد عبرها معاني الحب والاسترخاء، مع تراصف الأشجار والمياه العذبة المحيطة بالأحجار الكبيرة التي شكلت بإنحنائاتها مجسماتً تساعد الزوار على تجسيد ذكرياتهم بصوراً تبقى شاهدة على روعة المكان والمناسبة والحضور والموسيقى.
“لك ليش الكل نايم” كانت خشونة صوت أنس عيسى 42 عاماً، كفيلة بطرد النعاس من جفون الجميع في شارع “جميلة بوحيرد” بمدينة قامشلو، وكأنهم اتفقوا على السهر طيلة الليلة التي سبقت رحلتهم الترفيهية السنوية، في الطريق إلى الجارودية كانت حافلات النقل تصدح بأصوات الأغاني والتصفيق والتصفير أحياناً، في جوً عائلي متخطين به عُقد التكبيل الاجتماعي لنمطية حياة من فقدوا بريق طفولتهم ومراهقتهم في سنين الحرب.
وصلت قافلة المحتفلين، وكأنها لوحةٌ أراد رسامها التعبير عن جميع الأعمار، كبار وصغار، رجالاٌ ونساء، طلبة جامعات، ومدارس ومعاهد تعليمية، جمعهم ثقتهم بمنظم الرحلات المعروف منذ حوالي عقدين.
كاد الحزن أن يجد طريقه إلى قلوب الواصلين، فالأمطار الغزيرة التي هطلت طيلة الأيام العشر التي سبقت موعد الرحلة، حالت دون نزولهم بين الأشجار التي حجبت ضوء الشمس عن تربتها الموحلة والمليئة بمياه المطر، لكن عنفوان الشباب طارد الحزن وأمضوا في طريقهم إلى ساحة مشمسة تحيط بها الورود والأحجار والبحيرة من أطرافها.
أنماط جديدة
كان “أنس عيسى” والملقب بــ “ابو شيدا” يسمى في أيام الدراسة الجامعية بــ “أنس للرحلات” يتحدث لشبكة آسو الإخبارية “أتذكر أول رحلة قبل أكثر من عشرين عاماً ومرارة الوجّع بعد فشلنا في إدخال البهجة لقلوب المشتركين، عاهدتُ نفسي أن أقوم بشيء مُميز” يصف “أنس” نفسه بصاحب خبرة تراكمية في العمل المنظم كالرحلات والحفلات، لكن أكثر ما أثر في نفسيته إحجام الفتيات عن المشاركة في السكيتشات المسرحية التي قُدمت “كانت الكُرديات يشعرن بالخجل والعيب بمجرد الحديث عن مشاركتهن ولو بدور صغير في أي عرض مسرحي، دوماً كان أحد الشباب يرتدي الزّي النسائي ويأخذ دورهن”
يشعر “عيسى” بالفرحة ما أن يجد البهجة على شفاه الحضور، يتحضر جيداً يزور المكان المقرر، يحافظ على سرية العمل “دوماً أقوم بجولة استكشافية لمكان الرحلة، لا يمكن أن أخذل من يثق بي، في هذه المرة خرجت بصحبة صديقي جان، لمعاينة قرية الجارودية” يضحك كثيراً ثم يتأسف لما تعرض له صديقه “نتيجة الأرض الموحلة تعرض لسقطة على الأرض، لم يُصب بأذى لكنني لا زلت أتخيل منظر الطين على طرفه الأيمن، وطرفه الأيسر النظيف”
يملك “عيسى” معهداً خاصاً بدورات المناهج التعليمية، فيقدم لتلاميذه فسحة للترفيه عن ضغوط الدراسة “حاولت كسر النمطية المقيتة التي تسود أغلب الرحلات والحفلات، حتى في المسابقات والعروض فإننا نقتصر على ما يزرع الفرح والضحك فقط”
يتذكر “عيسى” بعض طلبة المدارس الذين اشتركوا في إحدى رحلاته، واحتكاكهم مع النخبة الثقافية الموجودة “شكل ذلك حافزاً لهم للمزيد من المتابعة والدراسة، وها هم اليوم يقتربون من التخرج من الجامعة”
يضحك كثيراً وهو يتذكر بروفات المسرحية في مركز ستيرفا الإذاعي “كان صديقي “نهايت” يحاول جاهداً تحمل ضغط التخطيط والتنظيم، فإخراج 90 شخصاً إلى مسافة تبعد عن مدينتهم مئات الكبلومترات ليس بالأمر السهل”
كانت أصوات الأغاني والدبكات والغناء كفيلة بتجميع أهالي القرية حولهم ومشاركتهم الحفلة والرقص على أنغام المايسترو “مسعود” والفنان “سنان”.
انبهار ورغبة بالتكرار
تقول الطالبة الجامعية “رشا” 23عاماً، إنها قررت المشاركة في الرحلة بناء على ما سمعته من أصدقائها عن مشاركتهن في رحلة العام الفائت وحول طبيعة المشاركين والحضور “مع المسافة الطويلة لكنني لم اشعر بأي تعب، حين شاهد الجميع منسجمين ومتعاونين أدركت أنني سأقضي وقتاً ممتعاً اليوم”
يشعر المشاهد لتعابير وجه “رشا” إنها عاينت لحظات فريدة من نوعها، وكأنها شاهدة ولأول مرة تجمعاً يمتاز بالانسجام والتعاون “الكل كان يحترم الكل، يتساعدون يرقصون يمزحون، جميعهم وكأنهم بيتٌ واحد، لم تقتصر رحلتنا على التقاط الصور وتحضير الطعام، بل إنني شعرت بالضيق حين وصلت السيارة المحملة بالوجبات، كي لا يضيع الوقت ونفقد اللحظات المميزة، وكانت وجبات شهية على كل حال”
تشكر “رشا” أهالي القرية لكرم أخلاقهم وحسن استقبالهم وضيافتهم “أرغب بزيارة المرأة التي دعتنا لزيارة بيتها، كانت بسيطة جداً، سأحاول جاهداً زيارتها بأقرب فرصة”
تبتسم قليلاً لتتذكر الأغاني التي كان شقيقاها التوأم يُغنيانها للحضور ومع تأملها للأفق قبل المغيب “حتى الطبيعة والشمس قبل رحيلها، المياه، والأشجار، والأخضر الطاغي على الأرض، كُلهم نسجوا معاً قصة جميلة سأبقى أشارك في كل رحلة يقوم يشارك بها الكروب”.
لم أتخيل أن تكون المنطقة بهذا الجمال تتحدث “هيفي جنكو” 22عاماً، طالبة في جامعة قرطبة الخاصة، عن مشاركتها في الرحلة “أنا مُنبهرة بالمكان، حيث لم استطيع أن أضيع لحظة واحدة فقط دون أن أتأمل ما حولي، نفتقد هذا الجمال في وسطنا، لكننا نحمله في ذواتنا”
تتأسف “جنكو” على ضياع اللحظات دون الشعور بالسعادة “يجب علينا تكرار هذه الرحلات خاصة وأن أكثر ما ميزها حضور أصدقائي وعائلتي”
تنتمي “هيفي” إلى أسرة سياسية فوالدها يشغل عضو المكتب السياسي في أحد الأحزاب الكُردية في سوريا، لا يبخل عليهم بشي من الحنان والرعاية والحبّ، ما جعلها وأسرتها مُلتزمين بضغوطات الحياة وعمل والدها، لكنها تقول “عادة ما تكون الرحلات مفروزة إلى الأصدقاء أو العائلة، أما وأن تكون هذه المرة مشتركة بين الطرفين فهي السعادة التي لم تتحقق من قبل”
أكثر ما أثار أنتباه “هيفي” عدم معرفتها بمكان الرحلة “لم نكن نعرف إلى أين نتجه، لكنني أثق بمن حولي، رُبما لأسباب خاصة لم يُخبروننا، لا يهم، فالمكان وطبيعته وهوائه وأهله وأجواء الرحلة كانت كفيلة بزرع ذكريات جديدة خلدناها بالصور”
شغف الانتظار للرحلة القادمة
أما الطالبة الجامعية “رودا” 24عاماً، تجد نفسها محظوظة أكثر من صديقاتها فهي المواظبة على المشاركة في هذه الرحلات السنوية “لا أشعر بالروتين أو الملل، ما أن نصل إلى المكان المُحدد حتى يشعر الجميع إنهم عائلة واحدة، تتجاوز هذه الرحلة مجرد الطعام والصور والرقصات، أنتظر دوماً موعد الرحلة القادمة”
تشعر “رودا” بالتميز بمشاركتها مع فئات ثقافية وعمرية متنوعة “الجميع كنا سوياً الكبار والصغار، النساء والرجال، والشرائح التعليمية من مدرسين وأكاديميين وكتّاب وصحفيين وأطباء، لم تتواجد أيّة حواجز أو موانع للشعور وكأننا أسرة مترابطة ومنسجمة” تتذكر رودا حدثين منفصلين “ليلة الرحلة لم ننم أنا وصديقاتي نتواصل عبر وسائل التواصل الاجتماعي، نخطط ونحضر الأزياء، وتتحدث عن بساطة أهالي القرية والاحترام الكبير الذي لاقوه منهم “تتمنى رودا العودة مرة أخرى إلى الجارودية والعيش هناك لبضعة أيام” هوائهم مياههم طبيعتهم نفسيتهم أخلاقهم، كُلها تجعلك تشعر بضرورة العودة إليهم”
“شكراً أستاذ أنس” بدأ الطالب “أبو شيرين” 17عاماً -كما يحب أن يُكنى- حديثه “شعرت إنني أطير، حين أخبرني عن دور مُهم في المسرحية” تغيرت العلاقات الاجتماعية بما فيها عادات الزواج، وأصبحت رغبة العيش إلى جانب شخصً مُقتدر تفوق رغبة العيش مع قصص الرومنس والحب والغرام. “عرضنا مسرحية تتحدث عن الفشل في الارتباط لمن يفشل في تحصيله العلمي” يضحك “أبو شيرين” كثيراً وهو يُقلد دور صديقه “شيدا” 16عاماً، المتقمص لدور الفتاة “باروكته الصفراء والروج الأحمر على شفتي صديقي كانت تدفعني للضحك دوماً، لا أعرف كيف تمالكت نفسي” لم يخفي سعادته بالرحلة التي أختارها دون سواها للخروج من ضغوطات الشهادة الثانوية.
الحرب وفقدان الأعزاء وضياع الأحلام والروتين تدفع نحو اليأس، لكن للطبيعة كلمة أخرى، وللصداقة الحقيقية طعماً أخر، تبقى اللحظات المُخلدة عبر الذكريات وعدسات المصورين زوارقٌ تحمل إلينا مشاهد تُعيدنا إلى السرور الذي عشناه، في كل لحظة نشعر بها بالوحدة، حينها تجد الموسيقى المصاحبة للرحلات، نفسها وقد طوقت رونق الطبيعة لتُشكل مع جمال الوجوه المُشاركة أملاً جديداً بغدٍ أجمل.