مدونة آسو
“حفريات” تكشف بالوثائق محاولات تركيا إحياء “داعش”
كريم شفيق
صحافي وكاتب مصري
“بناء على حقيقة هذا الفصيل (يقصد قوات سوريا الديمقراطية)، وما يقوم به؛ فإنّ قتاله هو من الجهاد في سبيل الله، وهؤلاء أصحاب فتنة للناس في دينهم ودنياهم، لا فرق بينهم وبين قتال النظام السوري؛ لأنهم حلفه ويحققون ما يريده أعداء الله في سوريا من التقسيم والقضاء على الثورة، وفي جهادهم حماية للبلاد والعباد”. بهذه العبارات الواضحة، أصدر المجلس الإسلامي السوري “فتوى دينية”، إبان تنفيذ الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، تهديده العسكري شرق الفرات بسوريا، في العملية التي عرفت بـ “نبع السلام”.
وفي الفتوى الصادرة من المجلس الإسلامي السوري، ومقره إسطنبول وتأسّس عام 2014، فإنّها تصف القوات التركية والعناصر الموالية لها بـ “المجاهدين”، كما تؤكّد أنّه ليس هناك “مانع شرعي من التعاون مع الحكومة التركية في مقاتلة المجرمين، لما في ذلك من المصلحة العامة للثورة السورية”.
أردوغان والأساطير المؤسسة للعنف
ليست المرة الأولى، إذاً، التي تستعين فيها أنقرة، بالدين كسلاح أيديولوجي لتوفير غطاء تبريري لمواقفها السياسية والعسكرية، بل تتجاوزه إلى توظيف جماعات الإسلام السياسي المتباينة، كما الحال في عملتَي “درع الفرات” و”غصن الزيتون”؛ إذ ترددت الأدعية من خلال الخطباء في المساجد ضدّ الأكراد في تركيا، وتلا الأئمة في الصلوات سورة “الفتح”.
بيد أنّ العملية العسكرية الأخيرة، والتي اندلعت في 9 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، تزامنت مع دعوة زعيم تنظيم داعش، أبي بكر البغدادي، قبلها بأسبوعين، عبر تطبيق تلغرام، وتحديداً في 16 أيلول (سبتمبر)؛ إذ طالب عناصره في التنظيم إنقاذ مقاتليه وعائلاتهم، بحسب تعبيره، المحتجزين في السجون والمخيمات الكردية، ومتوعداً بالثأر، كما جاء في التسجيل الصوتي.
وترصد “حفريات” في هذا التحقيق، تبعات ما جرى بعد العملية العسكرية الأخيرة التي نفذتها تركيا، في 9 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، عبر شهادات ميدانية؛ حيث تفاقمت الأوضاع في شمال سوريا، خاصة بين المدنيين، مع نزوح ما يقرب من 300 ألف مواطن، من بينهم 70 ألف طفل؛ إذ بدأت تظهر تغييرات عميقة، تقوم بها الفصائل التي انتشرت وحازت السيطرة في المناطق الخاضعة لنفوذها، وتتصل بأمور الهوية والثقافة المحلية، وهدم البنية الاجتماعية للمنطقة، واستهداف القوميات المختلفة فيها، عبر ممارسات ووسائل عدوانية، لا تراعي التنوع الديني والإثني بين الأكراد والعرب والسريان والجركس، وكذا، بين المسيحيين والإيزيديين والمسلمين، بطوائفهم ومذاهبهم المتفاوتة، بل تعمد إلى إثارة النعرات والعصبيات.
وتجاوزت تلك الممارسات عمليات التهجير ومصادرة الممتلكات والأموال، إلى فرض ملامح حياة جديدة ومختلفة، وبثّ خطاب كراهية ضدّ الأكراد، على وجه الخصوص، بحسب شهادات محلية عديدة، تعرض أصحابها للأذى المباشر، مادياً ومعنوياً.
عودة داعش.. كيف ولماذا؟
وغلب على مجمل تلك التغييرات محاولات جمّة لجهة فرض نمط إسلامي متشدّد وراديكالي؛ فتم تدشين جمعيات دينية دعوية، ذات طابع سلفي جهادي، ومدارس دينية تستهدف الأطفال في مرحلة عمرية مبكرة، بهدف نقل الأفكار المتطرفة لهم، بدعوى تحفيظهم القرآن الكريم، واللغة العربية، فضلاً عن فرض الحجاب على النساء، وكذا الدعوة للصلاة، وإجبار الإيزيديات على اعتناق الإسلام، ناهيك عن هدم المزارات الدينية، وحرق الكنائس، وغيرها من الأمور ذات الصلة.
السؤال والفرضية الأساسيّان في التحقيق؛ انصبّا حول ما إذا كانت تلك الممارسات التي تتعمدها القوات الموالية لأنقرة، وتتماس مع وقائع وأحداث سبق وقامت بها عناصر تنظيم “داعش”، محضَ صناعة عفوية أو بدافع العصبية الدينية والقومية، أم إنّ لها مرجعية وضرورة معينة، وتتصل بالتنظيم الإرهابي على نحو ما؟
الشهادات والوثائق التي حصلت عليها “حفريات”، تكشف صلة عضوية وارتباطاً مباشراً بين أعضاء وقيادات سابقين في “داعش”، جرى بعثهم وإحياؤهم داخل الفصائل المنضوية تحت ما يسمّى بـ “الجيش الوطني السوري”، المدعوم من تركيا، منذ تأسيسه عام 2017. ويضاف إلى ذلك؛ تورّط الحكومة التركية في إعادة دمجهم، بعد تدريبهم وتهيئتهم العسكرية، في أحد المعسكرات على الحدود التركية السورية، خاصة بعد هزيمتهم في معركة الباغوز.
الميليشيا الدينية.. الأعلام السوداء
لم يتردّد عمار (اسم مستعار)، في العقد الثالث من عمره، أثناء تسجيل شهادته، في أن يؤكّد على ظهور سمات إسلامية مشابهة لأفعال عناصر “داعش” في عفرين، حسبما يقول؛ حيث جرت وقائع عديدة، في عدة مناطق، مثل؛ “راجوا” و”معبطلي”، اللتين تسيطر عليهما ميليشيا “الحمزة”، أحد الفصائل التابعة للجيش الوطني، المدعوم من أنقرة، ومعه بعض الفيالق الصغير، مثل “محمد الفاتح” و”جيش المجد”، وجميعها ذات طابع إسلامي متشدّد، في شمال غرب عفرين؛ إذ تمنع خروج النساء دون ارتداء غطاء الرأس واللباس الشرعي، وفق شروطها، كما حدث مع شقيقته وزوجته، فضلاً عن دعوة الرجال للصلاة عبر العناصر المنتشرة في الشوارع، بينما تقوم بتهديدهم بتنفيذ عقوبات على من يخالف تعليماتهم.
ففي بلدة شيخ الحديد؛ اضطر العديد من الأهالي إلى التخفي في منازلهم، بحسب الشاب الثلاثيني، في أوقات الصلاة، خاصة من غير المسلمين، وأعداد هؤلاء ليست قليلة، خشية تعرّضهم للإهانة أو الضرب.
ويضيف لـ “حفريات”: “تقوم الميلشيات بنشر الدعاية الدينية المتشددة، والترويج لأفكارها المتطرفة، في كلّ يوم جمعة، أثناء الخطبة، عبر ساحة البلدة الرئيسة، ويجري حصر الحضور، من خلال وسطاء تابعين لهم، يبلّغون عن المتغيبين، ويتعرض كلّ من يتخلف عن المجيء للمساءلة والعقاب، الذي يصفونه بـ “الحكم الشرعي”، في اليوم التالي؛ إذ أضحت المساجد ساحة للدعاية العنصرية، والتحريض ضدّ أبناء المنطقة بصورة تحمل كراهية شديدة”.
ويلفت إلى أنّه يُمنع رفع الأذان من قبل إمام الجامع الكردي، منذ الوجود التركي، بينما يتمّ تنصيب آخر لدعوة الناس للصلاة أو الخطبة، أو الإعلان عن فعالياتهم الخاصة، التي تقوم بها تلك الفصائل بالجامع، فقط باللغة العربية، رغم أنّ غالبية كبار السنّ من الأكراد لا يفهمون اللغة العربية.
الأطفال المنبوذون… فاتورة الحرب
يعمد الاحتلال التركي، منذ وجوده في مناطقنا، إلى تغيير كلّ شيء، بحسب الشاب الثلاثيني، وذلك من خلال استهداف ثقافة المنطقة ولغتها المحلية، بيد أنّه يشير في شهادته إلى أنّه ثمة ظاهرة أخرى، تتصل باضطرار الأهالي لعدم إرسال أبنائهم إلى المدارس، وامتناع الطلاب أنفسهم عن متابعة دراستهم؛ حيث تعرّض شقيقه، الذي لا يتجاوز الـ 11 عاماً، للتمييز العنصري والإهانة والضرب، من قبل أقرانه في المدرسة، إثر ما قام به الجيش التركي عبر الفصائل الموالية له، من تغيير للمناهج التعليمية، وفرض اللغة التركية بدلاً من الكردية، وطرد المدرسين الكرد، وتعيين آخرين من المستوطنين مكانهم.
ويردف: “تحوّلت مدرسة شقيقي الأصغر إلى مقر عسكري للقوات التركية، بينما تمّ افتتاح مدرسة أخرى، وحين التحق شقيقي بها، بدأ يتعرض لبعض المضايقات من زملائه، الأمر الذي وصل إلى الضرب في إحدى المرات، من قبل أطفال عرب مستوطنين، نتيجة الدعوات العنصرية التي يمررها المدرسون أنفسهم وسط الطلاب، وتحريضهم ضد بعضهم، وهو ما لم يكن ليحدث من قبل بين العرب والكرد، وظهور نعرات قومية”.
لذا، اضطر والدي لمنع شقيقي من استكمال تعليمه تفادياً للمشاكل، بحسب المصدر ذاته، الذي يؤكد أنّه؛ رغم عدم وجود إحصائيات حول ذلك الأمر، لكن تعاني الأسر الكردية وأطفالها، في عفرين والمناطق الخاضعة لسيطرة الأتراك والمستوطنين، من تسرّب أبنائها من التعليم بشكل قسري، بما يهدّد مستقبلهم التعليمي، كما يلفت إلى أنّ المدرّسين يتقاضون رواتبهم بالليرة التركية.
وفي شهادته لـ “حفريات”، يؤكّد الصحفي الكردي، والناشط الحقوقي الإيزيدي علي عيسو، أنّ هناك العديد من الممارسات العدوانية الموثقة بحقّ الإيزيديين، والتي تتصل بإجبارهم على الحجاب، وفرض الإسلام عليهم، إضافة إلى هدم المعابد والمزارات الدينية الخاصة بهم.
ويضيف: “المزارات الدينية الإيزيدية والأضرحة إما تعرضت للتدمير بشكل متعمّد، من قبل مسلحي الجيش التركي، أو تمت سرقتها وتخريبها، وتحويل بعضها إلى مقرات أمنية وعسكرية، حسبما وثقنا في مؤسسة (إيزدينا)؛ حيث يتجاوز عدد المزارات الإيزيدية في عفرين، نحو 25 مزاراً، ومرقداً دينياً، وفي شهر آذار (مارس) عام 2018، قام مجموعة من المسلحين بحرق شجرة، في قرية كفرجنة بعفرين، تقع أمام مزار ديني مقدس لدى الإيزيديين بعد هدمه، ويدعى (مزار هوكر)، بينما قام المسلحون بالاستهزاء بالشجرة وبالتقاليد الدينية، وحدث الأمر ذاته، في مزار “شيخ جنيد”، في قرية فقيرا؛ حيث قام المتشددون بتدميره تماماً، ونبش القبر وسرقة محتوياته”.
الإيزيديون مهدّدون مجدداً
يتعمّد المحتلون في عفرين، كما يقول عيسو، إهانة الإيزيديين ووصفهم بأبشع الصفات، ويعتبرونهم “كفاراً”، وبذلك يشتركون مع داعش في الأيديولوجيا التكفيرية نفسها التي تنبذ الآخر؛ فقبل احتلال عفرين كان الإيزيديون يمارسون طقوسهم الدينية، بحرية تامة، بيد أنّ الاحتلال فرض عليهم حياة إسلامية متشددة، وصلت حدّ إجبار الإيزيديين على اعتناق الدين الإسلامي.
وبحسب مؤسسة “إيزدينا”، وهي جهة حقوقية محلية، تعنى بقضايا الأقليات، ومختصة بالديانة الإيزيدية، ورصد الانتهاكات المرتبطة بهم، فقد تمّ تدشين محاكم قضائية خاضعة للسلطة العسكرية، الممثلة فيما يعرف بـ “الجيش الوطني”، التابع لأنقرة في مدينة عفرين، وذلك بعد سيطرة القوات التركية؛ إذ تستند هذه المحاكم المحدثة في تبرير وجودها إلى “القانون العربي الموحّد”، والذي ينغلق على أحكام الشريعة الإسلامية وفقهها، ويحدّده كمصدر وحيد للأحكام القضائية، وينصّ القانون على عقوبات؛ كالقصاص والإعدام لمن تنطبق عليه شروط “الردة”، وقطع يد السارق، وجلد شارب الخمر، فضلًا عن عقوبات أخرى، تتنافى مع مبادئ حقوق الإنسان في العالم، التي تنظر هذه المحاكم إليها باعتبارها “مخالفة لشرع الله”.
ومن جهتها؛ تؤكّد الناشطة الكردية روكن سعيد، أنّه تمّ إجبار النساء على ارتداء الزيّ الشرعي، الذي كان داعش يفرضه عليهنّ في المدن التي سيطر عليها في سوريا والعراق، وتمّ إجبار الإيزيديين في عفرين، بوجه خاص، على اعتناق الإسلام، وتدمير المعابد الدينية والأضرحة الخاصة بهم، وسرقة محتوياتها وتفجير المقابر، ونهب الآثار.
كما تمّ تغيير أسماء القرى الكردية إلى أخرى بأسماء تركية، حتى أسماء الكرد المدنيين في بطاقات الهوية الشخصية تمّ تغييرها، أو بالأحرى تزويرها، حسبما تقول لـ “حفريات”، مثلما جرى مع سيدة تدعى “كردستان حسن”؛ حيث تمّ تغيير اسمها إلى “كلستان”، إضافة إلى ظهور صورتها في بطاقة الهوية الجديدة وهي مرتدية الحجاب، رغم أنّها لم تكن ترتديه في صورتها الموجودة على بطاقة الهوية الأصلية.
طمس الهوية وإلغاء الخصوصية
وتضيف في شهادتها لـ “حفريات”؛ أنّ “كردستان” لا تعد حالة استثنائية؛ إذ قام المجلس المحلي في عفرين، الذي تشكّل من خلال الحكومة التركية، بتغيير بطاقات الهوية للسوريين، في مناطق سيطرة الجيش التركي، والفصائل الموالية له بأخرى، حتى تتناسب ورغبته في التوغّل وفرض نفوذه وسيطرته، واستكمال مخطّط التغيير الديموغرافي، وإلغاء الخصوصية الثقافية في المنطقة، بينما تتوالى جملة الانتهاكات المرتكبة.
ومن بين القرى والمدن التي تمّ تغيير أسمائها، قرية قسطل مقداد، واستبدلت بـ “سلجوق أوباسي”، وقرية “كوتانا”، والأخيرة تغيرت إلى “زافير أوباسي”، حسبما توضح الناشطة الكردية.
ويشير الباحث الكردي، في معهد واشنطن، باز علي بكاري، إلى أنّ حزب العدالة والتنمية، الحاكم في تركيا، استهدف ثقافة المنطقة الخاضعة لسيطرته، لفرض نموذج مغاير تماماً، عبر تدشين العديد من الهيئات الدينية، والجمعيات الخيرية، والمراكز الدعوية، بهدف نشر أفكاره الإسلامية الراديكالية والترويج لسياساته في المنطقة، كما قام الحزب بإنشاء مركز لرعاية الأيتام، وسماه “تنزيلة أردوغان”، وهو اسم والدة الرئيس التركي، وذلك في بلدة مريمين، بمنطقة عفرين، شمال حلب.
وأوضح لـ “حفريات” أنّ “المركز يحظى بدعم من جمعيتَي “الفرات” و”أندا” الخيريَّتين، اللتين تحظيان برعاية من أنقرة، وتمّ تخصيص صالات لألعاب الأطفال، وتعليمهم القراءة والكتابة، باللغتين؛ العربية والتركية، إضافة إلى أصول ومبادئ الدين الإسلامي، بنسختها التركية العثمانية”.
حزام تركماني
وأدرجت تركيا محاور الدين والتعليم ضمن خططها، بحسب علي، في سبيل تعزيز أهدافها لجهة تتريك المناطق السورية التي تخضع لسيطرتها، وذلك من خلال الفصائل المسلحة الموالية لها، وخصوصاً في منطقة شمال غرب سوريا بعفرين، والأخيرة تخضع لعملية تغيير ديموغرافي واسعة؛ حيث يعمد حزب العدالة والتنمية إلى زرع أفكاره الإسلامية المتشددة، في عقول من تبقى من أهالي عفرين، بعد الاستيلاء على منازل ما يقارب 300 ألف شخص، اضطروا إلى النزوح من المنطقة.
وعبر هذه الخطط والإجراءات الممنهجة، تسعى أنقرة، كما يوضح الباحث الكردي، إلى فرض الفكر الديني على السوريين، بحسب المرجعية التي يتبناها حزب العدالة والتنمية وتخدم مصالحه السياسية والقومية، بهدف تطويق التنوع الثقافي والمجتمعي، وذلك بالتزامن مع بناء جدار جغرافي عازل حول عفرين، فظهرت جمعية “شباب الهدى”، مثلاً، وهي إحدى المؤسسات التي دشّنتها أنقرة في عفرين، باعتبارها جمعية أهلية سورية، وتعمد إلى تقديم خدمات اجتماعية وأنشطة دينية في المنطقة، كما تحظى بالدعم من المخصصات المالية لوقف الديانة التركية، الأمر الذي تعلنه الجمعية ولا تخفيه، بحسب أحد بياناتها الرسمية، وهو ما يعكس صلتها المباشرة بالحكومة التركية، ومؤسساتها الرسمية الدينية وتوجيهاتها الصريحة.
وبحسب المصدر ذاته؛ فقد قامت تركيا بتوزيع عدد من الكتب المدرسية، على ما يقرب من 360 ألف تلميذ، داخل المناطق التي سيطرت عليها، في إطار عمليتي “درع الفرات” و”غصن الزيتون”، شمال سوريا، وفي كلّ من مدن “عفرين” و”جرابلس” و”الباب” و”أعزاز”. كما بدأت، مؤخراً، بمشاريع إنشاء جامعات تركية للسوريين، بغية تعميق عمليات التتريك.
الغزو التركي في شرق الفرات: رصيد جديد لداعش
ويتكون ما يعرف بـ “الجيش الوطني السوري”، الموالي لتركيا، في منطقة شمال وشرق سوريا، من خلفيات إخوانية وسلفية جهادية، بحسب الكاتب والباحث الكردي، بدرخان علي، ومن بينها، ألوية عديدة وميليشيا تتخذ أسماء مثل: “جيش الإسلام”، “فيلق الشام”، و”أحفاد الرسول”، “جيش المجاهدين”، “لواء التوحيد”، إضافة إلى فصائل تركمانية، تأسّست بدعم وتمويل مباشر من تركيا، وتكنى بأسماء السلاطين العثمانيين، أو زعماء أتراك لهم مكانة بارزة في الوعي التركي، مثل: “لواء السلطان مراد”، “حركة نور الدين الزنكي”، والأخيرة تعدّ بمثابة تنظيم سلفي جهادي، من جهة، وإثني تركماني، من جهة أخرى، كما يندرج فيها عناصر من بقايا تنظيم داعش المهزوم عبر مسميات جديدة.
ويؤكد بدرخان علي لـ “حفريات” أنّ “عناصر داعش ممن كانوا في جرابلس، انضموا إلى هذا الجيش بعد احتلال الجيش التركي لجرابلس، دون طلقة رصاص واحدة، وكذلك عناصر “داعش” في تل أبيض ومنبج، الذين فروا إلى تركيا أثناء تحرير هذه المناطق من “داعش”، على يد قوات سورية الديمقراطية؛ إذ تمّ تجنيدهم من مخيمات اللاجئين في تركيا، تحت إشراف الجيش التركي والاستخبارات في أنقرة.
وتُلاحظ صعوبة إيجاد خطوط فاصلة بين هذه المجموعات، التي يضع عناصرها العلم التركي على كافة مقرّاتها الأمنية والعسكرية، وبزّاتهم العسكرية، إلا أنّها تجتمع جميعها على هدف الولاء لتركيا، والعداء للأكراد كقومية، وقوات سوريا الديمقراطية، كقوة عسكرية، بحسب بكاري، وذلك بعدما حاربت الإرهاب الداعشي والقاعدي والإخواني، وهذا كاف بالنسبة لمرجعيتهم التركية.
وحسبما يوضح أحد النشطاء المحليين في عفرين (فضّل عدم ذكر اسمه)، وهو يقوم بتوثيق الانتهاكات في عفرين؛ فإنّ تركيا تعمل على بناء “حزام تركماني”، بحسب توصيفه، في المناطق التي تتاخم الحدود السورية التركية، بغية توطين التركمان النازحين من ريفيْ حمص واللاذقية في منطقة عفرين وشمال شرق سوريا.
ويكشف لـ “حفريات” أن “الاستخبارات التركية تعمد بواسطة المجلس التركماني، إلى ضمّ عناصر تركمانية لميليشياتها المحلية في سوريا، والتي تتخذ أسماء سلاطين أتراك عثمانيين، منها: ميليشيا الحمزة، والسلطان مراد، والسلطان محمد الفاتح، ولواء السلطان عبد الحميد، ولواء السلطان سليمان شاه، وتنضوي جميعها تحت لواء ما يعرف بـ “الجيش الوطني السوري”، بهدف بناء كيانات تصنع التغيير الاجتماعي والثقافي والديموغرافي المطلوب”.
ومن جهتها، تقوم جمعيات دينية تركمانية بافتتاح مراكز وهيئات دعوية، بهدف نشر الأفكار المتطرفة بين الأهالي، بيْد أنّ غالبية رواد هذه المراكز من المستوطنين القادمين من ريفَي حمص ودمشق، وباقي المناطق الأخرى؛ حيث ترسل العائلات أطفالها إليها، بهدف تلقي الدروس الدينية، وتستقطب تلك المراكز فئة الأطفال، بوجه خاص، وتوزع الهدايا عليهم، بينما تنشر أفكاراً عنصرية ومتشددة.
حواضن التطرف
وقد قامت هذه الفرق المسلحة، بحسب المصدر ذاته، بإنشاء معاهد دينية، مثل “معهد الفتح المبين”، وافتتحت مدرسة “باشا كاراجا”، وسط عفرين، والتي تعدّ فرعاً للمدرسة الدينية التركية الأكثر شهرة وذيوعاً؛ إذ تخرّج فيها بإسطنبول، العديد من الشخصيات المهمة سياسياً ودينياً، من أبرزهم الرئيس التركي ذاته، لتفقد إثرها، عفرين هويتها الوطنية، أمام هذه الهيمنة المطردة والتحولات الجديدة، كما قامت الفصائل المسلحة بتسمية إحدى الدورات العسكرية بـ “أشبال أرطغرل”.
وفيما يتصل بالانتهاكات على السكان المحليين، وفرض الطقوس الدينية عليهم، فقد قامت ميليشيا أحرار الشرقية، والتي ينحدر أغلب عناصرها من ريف دير الزور، بإجبار أصحاب المحال على إغلاق متاجرهم يوم الجمعة، والتوجه إلى الصلاة، بحسب مصطفى عبدي، مدير مركز توثيق الانتهاكات في شمال وشرق سوريا.
يقول عبدي لـ “حفريات”: “بالنسبة إلى ارتداء الحجاب؛ أطلقت الميليشيات الإسلامية في بداية احتلالها للمنطقة دعوات لارتداء الحجاب، عبر الجمعيات الدينية، كما وضعت لوحات كبيرة على الطرق الرئيسة، الأمر الذي رفضه السكان المحليون، وقد تكرّرت حالات الضرب والإهانة، والتعدي على النساء اللواتي لا يرتدين الحجاب، وبعدما ظهرت محاولات فرضه بالقوة والتهديد، شرعت غالبية النسوة والفتيات في ارتداء الحجاب أو اللباس الشرعي، بالشروط التي حددتها تلك الفصائل، خشية تعرّضهن للعنف والتحرش من قبل الميليشيات الإسلامية”.
كما حوِّلت منازل ومحال السكان المحليين إلى دور عبادة، من قبل الميليشيات المسلحة بعد تهجيرهم منها ومصادرة ممتلكاتهم، مثلما هو الحال في قرية قطمة، ذات الأغلبية الإيزيدية؛ حيث تمّ تحويل أحد المحال إلى مسجد ملحقة به جمعية دينية خيرية، وكذلك في قرية باصوفان الإيزيدية؛ حيث قاموا بتحويل أحد المنازل الأخرى إلى جامع، وثمّة حالة ثالثة وثّقها المركز؛ إذ جرى تحويل منزل لشخص أرمني مهجّر من عفرين إلى جامع.
ويوضح المركز؛ أنّ تلك المناطق هي إما ذات أغلبية إيزيدية، أو ليس فيها مسلمون من الأساس، وهو ما يعني إعادة توطين عناصر مسلمة وعربية فيها، بشكل قسري، في ظلّ عملية التغيير الديموغرافية، واستهداف التنوّع والتمايز الثقافي بالمنطقة.
وحصلت “حفريات” على أسماء ومعلومات خاصّة تتصل بقياديين وعناصر، في صفوف تنظيم داعش، تتنوع مسمياتهم ودرجاتهم التنظيمية، فبعضهم “انغماسي” والآخر “استشهادي”، كما أنّ بعضهم الآخر، ما يزال يقبع في سجون قوات سوريا الديمقراطية، وقد التحقوا، بعد هزيمة التنظيم في معركة الباغوز، بفصائل الجيش الوطني السوري، الموالي لتركيا، والميليشيات المنضوية تحته.
ملاذات آمنة للتكفيريين
وتشير المعلومات المتوفرة، التي حصلت “حفريات” على وثائق تدعمها، إلى أنّ أغلب هؤلاء العناصر عبروا إلى سوريا والتحقوا بداعش، من خلال معبر جرابلس الحدودي، بين سوريا وتركيا، والذي يعدّ بمثابة أحد المرتكزات الإستراتيجية التي استعانت بها المجموعات الجهادية، وفي هذه المنطقة الحدودية، أتاحت أنقرة ملاذات آمنة للتدريب والتهيئة العسكرية بعد هزيمة داعش، بينما يظهر أنّ غالبية الملتحقين سابقاً بداعش يشكلون حالياً قوام “كتيبة الحمزة”، أحد الألوية المنضوية تحت ما يعرف بـ “الجيش الوطني”.
وقد هيمن على معبر جرابلس في محافظة حلب، تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق والشام”، منذ نحو خمسة أعوام، ومن خلاله انتقلت المجموعات القتالية، وتمكّنت من تهريب الأسلحة.
كما ظهر اسم “أبي محمد الشمالي”، أحد قياديي داعش في تلك الوثائق، بصورة متكررة، والذي قتل في دير الزور، قبل عامين، حيث تمكّن من نقل الوافدين الجدد للتنظيم عبر مدينة غازي عينتاب في تركيا، مروراً بمدينة جرابلس، المتاخمة للحدود السورية التركية، والتي ظلت تحت سيطرة التنظيم، حتى عام 2016، بعد تحريرها منهم في معركة “درع الفرات”.
وفي حديث مسجل، صرّح الناطق الرسمي باسم قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، مصطفى بالي لـ “حفريات” بخصوص وجود عناصر من داعش، ضمن الفصائل الموالية أو المتحالفة مع تركيا: “لدينا وثائق وأسماء وصور واعترافات كاملة، تخصّ مئات الإرهابيين الذين كانوا في مناصب قيادية بتنظيم داعش، بين عامَي 2014 و2015، وذلك إبّان تحرير مناطق تل أبيض ورأس العين، والمناطق الممتدة في تلك المسافة؛ حيث هربوا إلى تركيا، وعادوا مع الغزو التركي، بصفاتهم القديمة نفسها، بينما حظوا بمناصب جديدة في صفوف ما يسمى بـ “الجيش الوطني””.
ويضيف: “قام الجيش التركي بقصف أحد السجون، الذي تقبع فيه مجموعة كبيرة من الجهاديين المنتمين لداعش، أثناء عمليته العسكرية الأخيرة، وهي مجموعة هائلة من أخطر العناصر؛ إذ تمّ اعتقالهم أثناء القتال مع قوات سوريا، وهم في مخيمات بالعراق وسوريا، في المناطق الخاضعة لسيطرة القوات الكردية، وتقدَّر أعدادهم بعشرات الآلاف، ومن بينهم نساء وأطفال وأفراد عائلات كاملة للمقاتلين المنتمين لداعش، بعضهم سوريون، وبعضهم الآخر أجانب، إضافة إلى مجموعة أساسية محتجزة، في مخيم الهولي، بريف الحسكة، شمال سوريا، الذي يقبع فيها مقاتلون من مختلف الجنسيات”.
تركيا تعترف… تركيا تراوغ
وحسبما جاء على لسان المبعوث الأمريكي السابق للولايات المتحدة الأمريكية، لدى التحالف الدولي المناهض لـتنظيم داعش، بريت ماكغورك، فقد كشف وجود علاقة بين الدولة التركية و”داعش”؛ إذ غرّد عبر حسابه الرسمي “تويتر”، بأنّه عقد عدة لقاءات مع تركيا، بهدف إغلاق حدودها أمام تنظيم داعش، بيْد أنّ الحكومة التركية لم تغلق حدودها.
وبحسب بيانات وزارة العدل التركية؛ ففي عام 2015، كان عدد الإرهابيين في سجون تركيا نحو 2850 إرهابياً؛ إذ لم يفتح تحقيق إلا بحقّ 41 إرهابياً فقط، وعام 2016؛ تمّ توقيف نحو 4605، بحجة الاشتباه بصلاتهم مع “داعش”، ولم يُسجن سوى 513، ثم صدرت الأحكام بحقّ 7 منهم فقط، وأطلق سراح الباقين”.
الأمر ذاته يظهر في البيانات الرسمية لوزارة العدل التركية، فخلال عام 2019؛ إبان العملية العسكرية التي عرفت بـ “نبع السلام”، أوقف الأمن التركي نحو 4517 شخصاً، وحتى الآن لم يتقرّر مصيرهم، أو يفصح عن نتائج التحقيقات معهم.
ويتضح من البيانات الرسمية؛ أنّ الدولة التركية أوقفت نحو 26 ألف و466 عنصراً من داعش، في الفترة الممتدة بين عامَي 2015 و2019، بينما لم يسجن غير بضع عشرات.
ومن جهته، كشف موقع “نورديك مونيتور”، المتخصص في التحقيقات الاستقصائية؛ أنّ عدداً كبيراً من الإرهابيين الذين اعتقلوا، في الفترة بين كانون الثاني (يناير) من عام 2014 وحتى تموز (يوليو) من العام ذاته، لم تدرَج أسماؤهم في السجلات الرسمية لمحاكم “حزب العدالة والتنمية”، بينما تمّ إطلاق سراحهم.
وفي حديث سجّلته “حفريات”، نفى مسؤول المكتب الإعلامي لميليشيا “الحمزة”، الموالية لأنقرة، ماجد حلبي، وجود عناصر من “داعش” ضمن صفوفها، سواء عناصر عادية أو قيادية.
وبسؤاله عن وجود أسماء لعناصر داعشية ضمن كتيبته العسكرية، بعضها سرّبته جهات أممية وحقوقية محلية، أجاب حلبي: “بكلّ تأكيد لا يوجد أيّ عنصر تابع لتنظيم داعش ضمن صفوفنا، كما أنّ هناك جهة عسكرية مخولة بمتابعة أيّ أمر عسكري لدى الفصائل، وتتحرّى تلك الشبهات في حال وجودها، كما أنّ هناك نظاماً داخلياً يحكم الفصائل التي تشكّل قوام “الجيش الوطني”؛ حيث يتمّ إرسال العنصر المشكوك فيها للشرطة العسكرية، لمتابعة القضية والتحقيق معه”.
وكما رفض مسؤول المكتب الإعلامي، تهمة وجود عناصر من “داعش” ضمن صفوفهم، نفى أيضاً اشتراك أيّ من عناصرهم في الانتهاكات العدوانية ضدّ الطوائف والقوميات والمذاهب في سوريا، ورفض، في المقابل، أكثر من مرة، إدانة الحوادث التي تجري ضدّ المسيحيين وكنائسهم، لا سيما مقتل أحد رجال الدين المسيحي وتفجير كنيسته؛ إذ تصادف قتل الأب إبراهيم حنا بيدو، رئيس الطائفة الكاثوليكية الأرمينية، في شرق الفرات، قبل ساعة من التسجيل معه.
البيوت الآمنة” لداعش في تركيا
ومن ناحيته، يشير الباحث التونسي المتخصص في قضايا التطرف والإرهاب، باسل ترجمان، إلى أنّ “المناطق الخاضعة لسيطرة ونفوذ أنقرة، في شمال وشرق سوريا، باتت جغرافياً آمنة لتنظيم داعش الإرهابي والعناصر التكفيرية، والمجموعات الجهادية، كما فضح مقتل أبي بكر البغدادي، في قرية باريشا، في إدلب، الخاضعة لنفوذ الفصائل الموالية لأنقرة، وجود رابط بين الطرفين، وأنّ جزءاً من ضمان سلامة البغدادي وحمايته، كان في هذه المناطق التي يتواجد فيها حضور تركي أمني وعسكري كبيران.
وتكشف عملية مقتل البغدادي، بحسب الباحث التونسي؛ أنّ الطرف التركي كان مغيباً تماماً عن التحضير والعمل الاستخباراتي والتنفيذ للعملية التي تمّت بالتعاون مع قوات سوريا الديمقراطية، وأجهزة الاستخبارات العراقية، وأطراف عربية أخرى؛ لأنّ الشكوك كانت تحوم حول استمرار علاقات تربط تركيا بداعش، بعد القضاء على معاقل التنظيم، في شمال سوريا، والأمر ذاته، تكرر مع التخلص من نائب البغدادي في العملية نفسها، بمكان آخر في منطقة “جرابلس” الحدودية بين التركية وسوريا، وتحديداً، في قرية عين البيضة.
ويضيف لـ “حفريات”: “في البداية؛ لا بدّ من التذكير بالدور التركي في الأزمة السورية؛ حيث كانت أنقرة الممرّ الأساسي لكلّ الإرهابيين، الذين انتقلوا إلى الأراضي السورية، من عواصم عربية وأوروبية، إضافة إلى أنّها كانت الممر الرئيس لكل شحنات الأسلحة التي دخلت إليهم، وبالتالي؛ الحديث عن الدور التركي وعلاقته بالجماعات الإرهابية التي انتشرت في سوريا، بمختلف مسمياتها ومرجعياتها، يؤكّد أنّها علاقة عضوية وارتباط فكري وأيديولوجي”.
وبخصوص الجرائم التي يرتكبها الجيش التركي، والمجموعات المتحالفة معه؛ فهي بحسب ترجمان، عمليات تطهير عرقي، وجرائم حرب بحقّ المدنيين في المناطق المحاذية للحدود مع تركيا؛ إذ تهدف إلى تغيير الوضع الديموغرافي، ونبذ وإبعاد الأكراد بكلّ الوسائل الإجرامية عن امتداداتهم الجغرافية والتاريخية.
ويلفت الباحث التونسي إلى أنّ “الجيش الوطني السوري، يتشكل بالأساس من مجموعات إسلامية راديكالية، بعضها كان ينتمي للإخوان المسلمين، والبعض الآخر التحق بجبهة النصرة وداعش، ومن بينهم جنود فروا من الجيش السوري الحرّ؛ لذلك تتطابق ممارساتهم وجرائمهم مع تلك الجماعات والتنظيمات، بينما تبدو تكراراً لنفس منهج الجرائم المروعة التي نفذتها التيارات الجهادية”.
ويؤكد أنّ مواجهة الوجود الكردي، الذي هو أحد مكونات المجتمع السوري، بحسب العقل السياسي لأنقرة، يتطلب “صناعة قوة تكفيرية”، لذلك تشكّلت في جنوب تركيا، تحديداً، ما يعرف بـ “البيوت الآمنة” التي يقطن فيها عناصر داعش، “كما تأسست في منطقة “وزيرستان”، الواقعة في شمال “باكستان”، معسكرات تدريب لداعش، قبل أن يجري إرسالهم إلى سوريا، بعد فترة من التهيئة والتدريب العسكريين”.
للقراءة من المصدر