أصوات نسائية
في حضرة الغياب أمهات من منبج في انتظار أبنائهن المفقودين
منبج | أحمد دملخي
كثير من النسوة يعشن اليوم في منبج خاصة، والمنطقة بشكل عام، على أمل عودة أبنائهن الذين فقدوا خلال الأزمة السورية.
“أم أحمد” إحدى تلك النسوة من منبج من حي الحزاونة جنوب المدينة، لديها خمسة أبناء أكبرهم أحمد، تعمل مع زوجها في محل بقالة صغير في الحي، فقدت ابنها أحمد بعيد سيطرة تنظيم #داعش على المدينة خلال النصف الثاني من عام 2014، وقد قامت بالبحث عنه مع والده في كل مكان، ولكن لا جواب.
من طالب إلى سجين بتهم مختلفة
تتحدث “أم أحمد” عن حياة ابنها قبل أن يعتقل على يد التنظيم الإرهابي: “كان أحمد طالباً جامعياً في جامعة حلب بداية الأزمة السورية لمدة ثلاث سنوات وطلبنا منه أن يزورنا ولم نكن نعلم انه سيأتي ليتم اعتقاله في المدينة!”. تتابع: “وبعد فترة من مجيئه للمدينة سيطر داعش عليها ولم يستطع مغادرتها وفي النصف الثاني من عام 2014 قاموا باعتقاله بتهمة التخابر والعمالة لكن توجه والده إلى مقر التنظيم لدحض هذه التهمة”.
توضح” أم أحمد” أنه وبعد فترة شهرين من الحديث والوساطة تم تبرئته من هذه التهمة، ولكن لحقت به تهمة أخرى وهي التواجد في أراضي النصيرية (وهذه التسمية التي كان يطلقها داعش على المناطق التي تقع خارج سيطرتهم). حاولت عائلة “أحمد” أن تشرح للتنظيم بأن ابنهم كان هناك لمدة طويلة وأنه لم يكن سوى لهدف الدراسة لكن دون فائدة، فقد أجابوهم أنهم سيخضعونه لدورة شرعية مغلقة في مدينة الباب لمدة ستة أشهر.
دورة شرعية أم غسيل دماغ
تملكت عائلة “أحمد” الخوف من الحكم الصادر بحق ابنهم، خصوصا أن كثيرون قد حدثوهم عن غسيل الدماغ الذي يلحق بالخاضعين لهذا النوع من الدورات، ولكن عندما قابلوا ابنهم قبل نقله إلى الباب، أكد لهم “أحمد” أنه لن يكون في صفوفهم، ولن تكون هناك أي قوة في الأرض قادرة على تغيير طبيعة تفكيره، فهو يسعى للتخرج و تحسين وضعه المادي والأكاديمي في حلب”.
تتحدث “أم أحمد” عن الظروف التي مرت بها كأم خلال الدورة الشرعية لداعش، وكيف كان تفكيرها فقالت : “لم أكن مرتاحة لهذه الدورة لكن زوجي قد تحدث إلي قائلا إنه من الأفضل أن يخضع لهذه الدورة على أن يعلق على أحد دوارات المدينة مقطوع الرأس فصبرت وبدأت أعد الأيام التي أخذت تمر كل يوم كأنه عام كامل”.
مع انتهاء المدة المقررة للدورة الشرعية توجهت العائلة للسؤال عن ابنهم في القسم الأمني الذي اعتقله فكان الجواب أنهم لا يعرفون أي شيء عنه، وأنه غير موجود في سجلات الدورة الشرعية التي أجريت في مدينة الباب، فجن جنون العائلة وحاولت “أم أحمد” الصراخ إلا أن زوجها نهاها عن هذا الأمر كونه سيسبب الكثير من المشاكل التي قد تضر أحمد، فهو لا يزال تحت رحمتهم.
أين أحمد… في أي سجن؟
بحث والد أحمد عن ابنه وسأل عنه، وفي كل فترة يتوجه إلى الباب أو أي منطقة يسمعون فيها عن خروج أحد الأشخاص من دورات داعش الشرعية المغلقة، ولكن كانت الأجوبة كلها سلبية، فلم يكن أحد قد رآه أو سمع عنه، وصلوا إلى يأس كاد أن يفتك بهم إلا أن أحد الشباب من مدينة منبج كان قد اعتقل على يد التنظيم مع “أحمد” واستمرا معاً في نفس المعتقل قد أفرج عنه ليأتي إلى منزل “أبو أحمد” ويخبرهم أن “أحمد” متواجد في مدينة جرابلس، وتهمته الإنتماء إلى الفصائل المعارضة للنظام السوري، وقد طلب الشاب من أهل “أحمد” ألا يتصرفوا إلا بعد يومين لأنه سيخرج إلى تركيا مع عائلته، فوضعه الآن في خطر، لذلك انتظر “أهل أحمد” حتى وصل زميل ابنهم في السجن، إلى تركيا وبدأت محاولات العائلة في تخليص ابنهم أحمد”.
وساطات بلا جدوى
تطرقت “أم أحمد” للحديث عن الوساطة والوعود الكاذبة وعيناها مليئة بالدموع وصوتها مشحون بنبرة حزن عميق: “ذهبت وزوجي إلى جرابلس للبحث عن ابني وقد أنكر عناصر التنظيم الإرهابي أنه لديهم حاولنا بشتى الوسائل لكن لا فائدة ترجى وهناك قابلنا أحد عناصر التنظيم المسؤولين وهو مصري الجنسية حيث شرحنا له القصة من البداية وقد عرض علينا المساعدة بعد أن وعده زوجي بخروف مذبوح في البداية رفض لكن لما رأى منا اللهفة وعدم القدرة على التصرف وافق وقد طلب من زوجي جعل الخروف جملاً كي يحضر المأدبة والي مدينة جرابلس آن ذاك فوافق زوجي دون تردد” استمر التواصل بين عائلة “أحمد” والعنصر الداعشي شهراً كاملاً ولم يحصلوا على أي نتيجة منه، وبعد قرابة الشهرين أختفى ولم يسمع عنه أي خبر.
بعد انقطاع أخبار الواسطة الأولى بحثت العائلة عن واسطة أخرى وقد وجدوا ضالتهم في منبج، حيث تعرف “أبو أحمد” عن طريق أحد أهالي السفيرة الذين يقطنون في الحي على داعشي ذو منصب في الأمنيات كان قد تزوج شقيقة السفراني.
طلب السفراني من العائلة مبلغ قدره 5000 دولار أمريكي لقاء إخراج “أحمد” من السجن، تقول “أم أحمد” “بدأنا مباشرة في تلك الفترة بجمع المبلغ فقد باع زوجي دراجته النارية وأنا بعت الذهب الذي كنت قد ادخرته لزواج ابني واستطعنا جمع المبلغ”
حاول السفراني أن يأخذ المبلغ من العائلة قبل أن يخرج ابنهم من السجن فرفضوا هذا الأمر، وقد تم الاتفاق أن يكون المبلغ موضوع كأمانة لدى شخص ثالث، لحين خروج ابنهم من السجن، ولكن بعد فترة قرابة الستة أشهر تغيرت الأمور وأعاد الشخص الثالث المبلغ لأبو أحمد بعد أن جاء أحد المعتقلين المفرج عنهم من سجن داعش في الرقة (الملعب الأسود) ليخبر العائلة “أن أحمد نقل منذ قرابة الشهرين إلى السجن في مدينة الرقة والتهمة لا تزال كما هي”.
في ظل الحملات العسكرية على داعش
توقفت “أم أحمد” قليلاً عن الحديث، وقد قامت بمسح الدموع التي حبستها طويلاً في عينيها ثم أطلقت تنهيدة عميقة وأكملت: “في هذه الفترة كانت قد مرت سنتان على اعتقال أحمد من قبل عناصر داعش توجهنا إلى الرقة للبحث عنه في الملعب الأسود لكن اتضح لنا أنه كان أشبه بالقلعة والوصول إلى داخله مستحيل في حالتنا وأخذنا نبحث عن طريقة للوصول إلى” أحمد” وقد نجحنا في ذلك بعد دفع مبلغ مالي لأحد قضاة داعش في محكمة الرقة”.
جلست العائلة مع ابنهم لمدة عشر دقائق كانت كفيلة لترد الأمل لهم، وقد عرفوا أنه يرفض فكرهم ولن ينتمي لهم، وبعد انتهاء المدة توجهوا مباشرة إلى القاضي الذي ساعدهم في مقابلته، وعرض ا عليه مبلغ كبير من المال لقاء مساعدتهم في إخراجه، وأبدى القاضي تعاوناً كبيراً كون الوضع في المدينة أصبح متوتراً نتيجة استهداف طيران التحالف لمقرات التنظيم الارهابي فيها.
دفعت العائلة قسم بسيط من المبلغ كعربون ثقة بينهم وبين القاضي الذي بدأ في العمل على إخراج “أحمد” من السجن وقد كان الاتفاق أن يكون ملف قضية “أحمد” بين يديه ليحكم له بالبراءة، وعندما عادت العائلة إلى منبج كانت الأمور تسير على أحسن حال، لكن تغيرت الظروف بعد تحرير المدينة من داعش في الربع الأخير من عام 2016، فقد أصبح التواجد في الرقة بعد تحرير منبج ضرباً من الجنون وخاصة في ظل الأوضاع الأمنية التي عانت منها المدينة خلال حملة تحريرها من داعش.
لا يزال الأمل ينبض بقلب الأم
كان لدى عائلة “أحمد” أمل أن يكون ابنهم بين الأشخاص المحررين من الملعب الأسود بعد تحرير الرقة إلا أن الحظ لم يكن في جانبه، فقد نقل “أحمد” إلى جهة مجهولة قبل يومين من حصار المدينة وهنا فقدت أخباره بالكامل.
أمل في بقائه على قيد الحياة والدليل قلب الأم: خلال سؤال “أم أحمد” عن الفكرة الحالية في مصير ابنها، أجابت دون تردد أو شك: “لا يزال أحمد على قيد الحياة استطيع الشعور بذلك قد تكون أباً ولديك أطفال لكن كن على ثقة أحساس الأم يتفوق على كل الأحاسيس عندما يرتبط الموضوع بأطفالها… أعرف أنه حي وانتظر اللقاء به.