مواطن وعدالة
من مدينة متحرّرة إلى أفغانستان ثانية… كيف جفّت دموع نساء عفرين؟
شبكة آسو الإخبارية – أحمد قطمة
لم تكن تدرك “هيفين\اسم مستعار”، وهي سيدة كُردية من عفرين، في العقد السادس من عمرها، أنها قد تتعرض لهذا الموقف حتى يوم التاسع عشر من يناير للعام 2018، فحتى ذلك اليوم، كانت الستينية قادرة على التصدي بعنفٍ لمن قد يتعرض لها أو لحفيدتها ببنت شفة، لا أن يبصق على صغيرتها التي تبلغ من العمر 10 أعوام فقط، بذريعة أنها لا تضع الحجاب!
فـ “هيفين”، حالها كانت حال كل السيدات في عفرين، ممن حصلن على قسط وافر من حقوقهن بشكل قانوني، عدا عن الأعراف الاجتماعية والعائلية، التي منحتهن الكثير من الحريات، تُحرم منها النساء في المناطق المجاورة لـ عفرين، سواء في ريف حلب الشمالي أو ريف إدلب أو غيرها من المناطق في عموم سوريا.
لكن، ليست “هيفين” وحدها صاحبة قصة هنا، فكل عفرينية، سواء من كان عمرها يوماً إلى 100 عام، بات لهن قصص، حتى يتحدثن فيه عن كل ما يعتصر قلوبهن، منذ أن وطأت قدم أول جندي تركي مع مسلحي المعارضة السورية المسماة بـ “الجيش الوطني السوري”، لأرض عفرين، عقب بدء هجوم عسكري واسع عليها في العشرين من يناير العام 2018، تحت مسمى “عملية غصن الزيتون”، والتي انتهت في الثامن عشر من مارس للعام نفسه، بالاستيلاء على مركز المنطقة.
(هيفين، رنكين، أم لهنك، أم سوزان، سوسن وبريفان)، وغيرهن العشرات، المئات والآلاف من الأسماء لنسوة من عفرين، لكل واحدة منهن روايتها لما عاشته ولا تزال تعيشه، في مكان إقامتها الراهن، واللاتي استطاعت “شبكة آسو الإخبارية” الوصول لهن، سواءً ممن ما يزلن في المنطقة، أو ممن هُجّرن عنها، ولا يملكن خيار العودة إليها حتى هذه اللحظة، إلا بشروط الاحتلال التركي ومسلحي المعارضة السورية، وهي شروط تبدو مستحيلة القبول لدى الكثير منهن!
بصق على حفيدتي بسبب الحجاب
تحدثت السيدة “هيفين” المقيمة في مركز مدينة عفرين، لشبكة آسو الإخبارية، عن الوضع في عفرين عقب نحو 6 سنوات من استيلاء الاحتلال التركي عليها، مؤكدة أن الحال على ما هو عليه من سوء وفلتان أمني وعدم استقرار، فقالت: “الوضع لم يتحسن، بل ازداد سوءً لجهة عمليات السلب والسرقة المتواصلين بحق سكان عفرين الأصليين الكُرد، أما بالنسبة للنساء الكُرد، فليس بيدهن حيلة، حيث يلتزمن بيوتهن، بعد أن فقدن حريتهن الشخصية التي كنّ يتمتعن بها سابقاً”.
وحول حريتهن في ارتداء ما يشئن، أو ما كنّ مُعتادات عليه في عفرين، قبل استيلاء الاحتلال التركي على المنطقة، أجابت بالنفي، وذكرت إحدى الحوادث التي شهدتها مؤخراً، فقالت إن لها جارة في الحي، كانت ترتدي “بنطال جينز” ومعطفاً مُحتشماً، لكن ذلك لم يمنع ذوي المسلحين من القاطنين هناك، من شتمها بـ “ألفاظ نابية”، عقب كل مرة كانت تمر فيها من أمامهم”.
وأكملت: “أخبرنا جار لنا يملك محل بقالة في الحي، بغية تنبيه السيدة، لترتدي شيئاً فضفاضاً أكثر تفادياً لشاتميها وأحاديثهم النابية”، كونه يشعر في قرارة نفسه بالعجز عن الدفاع عن جارته، التي طالما كانت وأغلب نساء المنطقة يرتدين ذلك النمط من اللباس، دون أن يتعرض لهن أحد بسوء.
وبخصوص إن كان قد فرض عليهن ارتداء الحجاب من عدمه، ذكرت السيدة الكُردية: “إنه أمر نلجئ إليه من تلقاء أنفسنا، بغية تفادي نظرات المسلحين وذويهم، وتجنباً للمشكلات، فمجرد أن نخرج إلى الشارع، يحدقون بنا ونشعر بأنهم يأكلوننا بعيونهم”.
مستدركةً: “بالنسبة للفتيات اليافعات، فهناك الكثير منهن لا يضعن الحجاب، وخاصة خلال السنة الأخيرة”، لكنها ذكرت قصة جرت معها وحفيدتها قبل فترة، فقالت: “لا يتعدى عمر حفيدتي الـ 10 أعوام، وقد ذهبت معي إلى السوق دون أن تضع الحجاب، مرّ بجانبنا كهل سبعيني من ذوي المسلحين، بصق على حفيدتي الصغيرة”، مُعللةً ذلك بأنه بسبب “نفسه الدنيئة”، أما هي فكانت عاجزة عن الدفاع عن حفيدتها في وسط أعداد كبيرة من المعجبين بفعل الكهل!
وحيال ذات الموضوع، نوهت “رنكين\اسم مستعار”، وهي سيدة كردية في نهاية العشرينيات من العمر، مقيمة في مركز مدينة عفرين، تحدثت لشبكة آسو الإخبارية، وأكدت أنها تضطر لوضع الحجاب عند الخروج من المنزل منذ 6 سنوات، ولا تزال حتى الآن تقوم بوضع الحجاب، مبينة السبب بالقول: “تحفظاً من قبلي، لعدم التعرض لمضايقات المسلحين والمستوطنين، الذين ينظرون باستياء لمن لا ترتدي الحجاب”.
وهو الأمر عينه الذي اضطرت له الناشطة النسوية الكُردية “أم لهنك\اسم مستعار”، وهي خمسينية مقيمة في مركز عفرين، حيث قالت في حديثها لشبكة آسو الإخبارية: “أنا من اللواتي اضطررن لوضع الحجاب كغيري من نساء عفرين، كي أستطيع العيش بسلام وأمان، ولحماية نفسي من التنمر، وتفادي النظرات البشعة، لأننا نعيش مسلوبي الإرادة، لا نملك ذرة أمان، ولا قوانين تحكمنا، نعيش بموجب قوانين الغاب، كل من يملك السلاح له النفوذ والسلطة، وله الحق في التحكم بالكُردي العفريني المغلوب على أمره”.
خسرت عملي
وتابعت “رنكين” لشبكة آسو الإخبارية، حول ما جرى معها منذ بدء استيلاء الاحتلال التركي على عفرين، في 18 مارس العام 2018، فقالت: “الواقع في عفرين، اختلف بنسبة كبيرة على السكان الكرد، بشكل عام، والنساء بشكل خاص”، وعللت: “بالنسبة إلي، أحدث احتلال عفرين، فرقاً شاسعاً ما بين الظروف التي كنت أعيشها سابقاً، فقبل عملية “غصن الزيتون”، كانت حياة النساء آمنة بشكل كبير”.
واستكملت: “كنت أقطن في إحدى قرى ناحية جنديرس، وأذهب إلى عملي بشكل يومي بالمواصلات العامة، ولا أتذكر بأنني قد تعرضت يوماً لمضايقة ما، أما خلال السنوات الـ 6 السابقة، فقد طرأ تغيير كبير على حياتنا، وأصبحنا مقيدات وأمامنا الكثير من العراقيل، لذلك خسرت عملي، ولم أستطع منذ ذلك الوقت الحصول على عمل مناسب كما في السابق”.
وأكدت: “حرمت الكثير من نساء عفرين، من أعمالهن، ولا سيّما العاملات في مجال المنظمات الإنسانية أو سلك التعليم، حيث تم استبدالهن بنساء المسلحين، بحجة أنهن نازحات وبحاجة للعمل أكثر، فهن لا يتعرضن لأي مضايقات تذكر من قبل الحواجز العسكرية، بخلاف النساء الكُرد، اللواتي تتعمد الحواجز مضايقتهن، من خلال تفتيش مركباتهن وبطاقاتهن الشخصية، خاصة في فترة بداية الاحتلال، حيث تعرضت الكثير من نساء عفرين لمضايقات، وفرض عليهن الحجاب، بالأخص من يقطنن القرى”.
وهو ما ذهبت إليه “أم لهنك” حيث قالت لشبكة آسو الإخبارية: “عمل النساء الكرد لدى المؤسسات التي تسمى بالمجتمع المدني، يتطلب دراسة أمنية وتفييش أسمائهن، ويتوجب عليهن التقيد باللباس الشرعي، وطبعاً أولوية التوظيف في المدارس والمؤسسات هي لنساء المسلحين، الذين يملكون نفوذاً في المنطقة، وكل زمام الأمور في أياديهم”، لافتةً إلى قيام بعض المنظمات بتوظيف عدد من المواطنين الكُرد، لإعطاء نظرة للعالم بأن الكُرد مشاركون، مستدركةً بالقول: “لكنهم مسلوبو الإرادة، ولا يتحركون إلا وفق مزاجيات وأنظمة تلك المؤسسات”.
ينعتوننا بالكافرات
وتابعت “أم لهنك”: “أكثر ما حزّ في نفسي خلال هذه السنوات الـ6، هو اضطرار الكثير من النسوة في مدينة عفرين، لتغيير نمط معيشتهم بدرجة كبيرة، وأود الإشارة إلى نقطة مهمة حول تعرض نساء عفرين، لتمييز واضح من قبل المسلحين والمستوطنين (في إشارة إلى ذوي المسلحين) وحتى نساؤهم، ونعتهن بالكافرات والمتبرجات، ونقد طريقة لبساهن، بأنهن يخالفن الشريعة الإسلامية، ويفترض عليهن ارتداء الملابس الشرعية، خاصة عقب ظهور مجموعة من النسوة عرفن باسم حبيبات الله، كانت مهمتهن التجول على نساء عفرين العاملات، ومطالبتهن بالتزام المنزل، وأن عملهن محرم، وينبغي عليهن ارتداء الزي الشرعي، وعدم الخروج من المنزل إلا بوجود محرم، في تشابه تام مع أفكار تنظيم داعش الإرهابي”.
“هم يعتقدون بأن الكُرد جميعهم ملحدون وكفرة، لا دين لهم ولا مذهب، أو قوم دخيل على مجتمعهم، وكل ما يملكونه مُباحٌ لهم، فأملاك الكُرد حلال عليهم، وكثير من النساء تعرضن للقتل بوسائل بشعة بدافع السرقة، عدا عن الاختطاف والسجن، لأنهن دافعن عن ممتلكاتهن أو عائلتهن، أو تعرضن للإهانة لأنهن لا يرتدين الحجاب، أو يلبسن الزيّ الكردي المعتاد في عفرين”، تضيف “أم لهنك”.
الجاهلية والغزوات الإسلامية
أما “أم سوزان\اسم مستعار”، وهي مقيمة أيضاً في مركز عفرين، فقالت لشبكة آسو الإخبارية، حول الأعوام الـ 6 الأخيرة التي مرت عليها هناك: “كامرأة كردية أعيش في عفرين، أنصدم بخيبات أمل يوماً بعد يوم، بإنه بات علينا أن نعيش في زمن الجاهلية والغزوات الإسلامية. 6 سنوات مرّت على كارثة احتلال عفرين، لقد كانت جنة على وجه الأرض، من حيث الرقي والحضارة والعلم وتطور المعرفة، وطبعاً كان للنساء دور كبير وأهمية في ذلك التطور”.
“كانت المرأة آنذاك مشاركة في جميع مجالات الحياة ومؤسساتها، وهي ذات قيمة تفتقدها مثيلاتها في الشرق الأوسط بأكمله”، قالت “أم سوزان”، وأشارت: “لكن للأسف باحتلال عفرين، فقدت المرأة كل ما كانت محصنة به، فباتت تحسب ألف حساب قبل أن تخرج من باب منزلها لقضاء حاجة ملحة لبيتها ولأولادها، وإن خرجت يتوجب عليها أن تضع الحجاب، وتلبس لباساً طويلاً يحميها من نظارات المسلحين المحتلين، وتجنبها التنمر والإهانات، حتى من نسائهم اللواتي يلبسن الخمار والجلباب”.
وحول وضع تعليم الفتيات في عفرين، قالت “أم سوزان” لشبكة آسو الإخبارية: “كثير من الفتيات تركن مقاعد الدراسة والمؤسسات التعليمية، بسبب فرض الحجاب وإجبارهن على التكلم باللغة العربية بدلاً عن لغتهم الأم، وإهانتهم من قبل المعلمات اللواتي يتنمرن عليهن ويفرضن الدروس الدينية والتعاليم الشرعية المتطرفة”.
وبيّنت أن “المرأة في عفرين، ولا سيّما اليافعات، ومنذ بداية الاحتلال، كن يخشين التنقّل بين قرى عفرين ومركز المدينة، أو بالعكس، نظراً لتدقيق الحواجز عليهن، وقيام المسلحين باستجوابهن وتفتيش هواتفهنّ المحمولة، حيث اعتقلت الكثيرات منهنّ بذريعة وجود صورة في هاتفها، أو احتوائه رقماً مشبوهاً”.
خياران أحلاهما مرّ
وتكمل “أم سوزان”: “قلوبنا أصبحت قبراً للشجاعة، فإن دافعنا إما أن نخسر أو نفجع، وماذا ستفعل الإرادة مقابل الانتهاكات والضغوطات، حيث يقومون أمامك بوضع السلاح في رأس زوجك أو ولدك، ويسرقون محتويات بيتك في وضح النهار، دون حسيب أو رقيب، كذلك، يذهب زوجك وأبناؤك إلى العمل ولا يرجعون، ومن ثم يتصلون بك ويفاوضونك على الفدية بأرقام خيالية، وأيضاً وأنت بين أملاكك الموروثة من أجدادك، يأتيك المسلحون ويمنعونك من جني المحصول، بحجة عدم أخذك موافقة أمنية أو دفعة إتاوة للفصيل المسيطر على قريتك، وإضافة إلى ذلك، عندما تمر من أحد الحواجز، يتم إنزال أولادك بذريعة التفتيش والبحث عن المطلوبين، أو عندما يسكنون في بيتك، وأنت تتردد في قرع باب منزلك والمطالبة به، فإن أصريت على المطالبة به، إما أن تفقد عزيزاً عليك، أو تدفع غرامة”، تحدثت فيما كان صوتها يوحي بأن عيونها تحبس دموعها، التي ذرفت الكثير، حتى جفّت دون جدوى.
وتصف في نهاية حديثها لشبكة آسو الإخبارية: “عندما تمشي في شوارع عفرين، تعتقد لوهلة أنك تعيش في أفغانستان، فجميع النساء محجبات، ويلبسن لباساً أسود طويلاً، بعضهن من الخوف، وأخريات لدرء أنفسهن من التنمر والإهانات، وهو ما يجعلنا نتأسف بعد التحضر والرقي العالي وتقدم العلم والمعرفة الذي كان قبل 6 سنوات”.
المُهجرات: لن نعود!
“سوسن رشيد” ناشطة مدنية من عفرين، مهجرة إلى مدينة قامشلو/ القامشلي منذ العام 2018، تقول لشبكة آسو الإخبارية، حول تهجيرها من أرضها: “لا زلنا بعد 6 سنوات من احتلال عفرين، بانتظار ضمانة للعودة الآمنة، واستعادة الحقوق المسلوبة، ومحاسبة مرتكبي الانتهاكات وقادة الفصائل، دون أي تطورات تذكر في ملف عفرين”.
ولوحت إلى أن “الأوضاع المعيشية والاقتصادية الصعبة التي تمر بها البلاد عموماً، كان لها أثر مضاعف على المهجرين، بسبب فقدانهم لموارد رزقهم وسبل عيشهم الأساسية، لا سيما المواسم الزراعية بالنسبة لأهالي منطقة عفرين”.
“لكن استمرار الانتهاكات منذ العام 2018، في عفرين، من استيلاء على الممتلكات إلى الاعتقالات التعسفية والتعذيب والإخفاء القسري والقتل لأسباب إثنية وعرقية، آخرها جريمة ليلة نوروز في جنديرس، التي راح ضحيتها 4 شبان كُرد، شكلت سبباً رئيسياً لعدم عودة مئات المهجرين أو التفكير فيها، إلى جانب أسباب أخرى تتعلق بالنساء على وجه الخصوص كالاعتقال لحجج وتهم واهية، والروايات التي سمعناها من الناجيات من الاعتقال عن المعاملة اللاإنسانية والقاسية والتمييزية التي تعرضن لها داخل المعتقلات، ومما نسمعه من أقربائنا المتواجدين داخل عفرين، وكيف تغيرت حياتهن الاجتماعية بعد عام ٢٠١٨، سواء من ناحية اللباس أو حرية التنقل والعمل”.
وتوضح لشبكة آسو الإخبارية: إنّ “العودة الآمنة هي أولوية ومطلب لدى كل مهجر/ة، لكن العودة ليست عملية عشوائية، إنما يجب أن تكون مرتبطة بحل سياسي يضمن الأمن والسلامة واستعادة الحقوق والممتلكات ومحاسبة المتورطين بارتكاب الانتهاكات على مدار ٦ سنوات، وتعويض الضحايا، مؤكدةً: “لن أعود دون هذه الضمانات والخطوات”.
مقارنة بين ثلاث فترات
وهو ما توافق عليه “بريفان سيدو”، التي كانت بدورها ناشطة نسوية في عفرين، وهجرت منها منذ العام 2018، حتى حطت بها الرحال كلاجئة في سويسرا، إذ تقول لشبكة آسو الإخبارية: “بعد 6 سنوات مضت على تهجيري من عفرين، أجد نفسي ما أزال متعلقة بالأيام الماضية التي وجدت ذاتي فيها كامرأة تبحث عن حقوقها، في ظل الإدارة الذاتية التي فتحت لنا المجال لإثبات الذات، واهتمت بحريات المرأة كما لم يسبق لنظام آخر أن فعل ذلك”.
وحول رحلة تهجيرها، وإمكانية عودتها إلى عفرين تقول “سيدو”: “كان لا بد من الخروج من عفرين، لإننا كنا نواجه مصيراً مجهولاً من خلال الهجمات الشرسة على عامة الشعب، وبالأخص المرأة، حيث تتمتع المرأة الكردية في عفرين، بتقاليد اجتماعية منفتحة ومتفهمة لواقع المرأة، تختلف عن طبيعة المجتمعات المحيطة بنا”.
وأجرت “سيدو” مقارنة بين وضع المرأة في فترة سيطرة الحكومة السورية على عفرين قبل العام 2011، وفترة حكم الإدارة الذاتية، إلى حين استيلاء الاحتلال التركي على عفرين، فقالت: “في فترة سيطرة الحكومة السورية، كنت ما أزال غير قادرة على فهم حقوقي كامرأة، ولكني لم أكن أخشى على مستقبلي بنفس الرعب الذي تخيلته في أيام الاحتلال التركي، وكنت من إحدى العاملات ضمن مؤسسات الإدارة الذاتية، وقد وجدت فيها أريحية تامة لممارسة عملي كامرأة حرة، دون قيود سلطوية ومجتمعية”.
وتابعت: “كان هناك في ظل الإدارة الذاتية، نوع من أنواع استرداد حقوق المرأة من المجتمع التقليدي، وكنت من أشد المعجبين بتلك المرحلة التي لن تتكرر في ظل وجود حكم الاحتلال التركي ومن معه، لإننا شاهدنا ما تعرضت له النساء من قمع حريات وسجن وفرض الدين بطريقة “ارتزاقية”، واستخدام وسائل التعنيف ضدها، الأمر كان شبيهاً لنا بمعاملة طالبان لنساء أفغانستان، لكون عفرين كانت ذات طبيعة تحررية، وهذه الافعال بعيدة كل البعد عن ثقافتها”.
وبخصوص إمكانية عودتها إلى عفرين، أو عودة غيرها من النساء العفرينيات، وما يمنعهن من ذلك، في ظل تأكيد الاحتلال التركي ومجالسه المحلية في عفرين، بأن المنطقة تتجه إلى الاستقرار، وأنهم يرحبون بعودة النازحين، قالت “سيدو”: “لن أعود إلى عفرين الحالية، فهي تبدو لي مختلفة جداً، خاصة أنني أعيش ضمن بلد مُتحرر بعيد عن النزاعات الدينية والطائفية، وتلك الادعاءات مجرد غيض من فيض، لأجل عودة السكان الاصليين إلى عفرين، وإكساب الاحتلال شرعية وجوده هناك”.
“ثوب عفرين الآن لا يشبه مجتمعها وسكانها الأصلين، إنه ثوب من نار قد ألبس لها بقوة السلاح والارتزاق، عفرين تتعرض لأعنف تزوير في التاريخ، في القرن الواحد والعشرين، دون حراك دولي لوقف تلك المهزلة، وتزوير الحقائق وتغير الديمغرافية والجغرافية، من حيث حرق وقلع وقطع الأشجار وسرقة الآثار وإلى ما هنالك من انتهاكات بحق الإنسانية”.
على الجهة المقابلة.. نفي وإنكار
لكن على الجهة المقابلة، يفند الموالون لتركيا، سواء من المجالس المحلية التي شكلتها في عفرين ونواحيها الستة الأخرى، أو مسلحي “الجيش الوطني السوري” هذه الاتهامات، ويعتبرونها ضرباً من الخيال، أو صادرة عن موالين لـ “الإدارة الذاتية” و”قوات سوريا الديمقراطية”.
كما يعتبرون أن كل المعلومات المماثلة لما تحدثت به النسوة الكُرد سواء المقيمات في عفرين، أو المهجرات عنها، في حديثهن لشبكة آسو الإخبارية، مثلاً، في إطار محاولات الطعن بجهودهم لإقامة ما يسمونها بالمناطق الآمنة، التي طالما تحدثت تركيا عن إقامتها على طول الشريط الحدودي داخل سوريا بعمق 35 كم، وهي تعني بشكل أو بآخر، تهجيراً كاملاً للكُرد من الشريط الحدودي، على شاكلة عفرين، من كوباني إلى المالكية\ديريك.
ووفق الموالين للاحتلال التركي، أعادت العمليات العسكرية التركية، الأمن والاستقرار إلى عفرين، بعد أن كانت تعاني من الاضطهاد والقمع والفوضى تحت حكم “قسد” و”الإدارة الذاتية”، ويزعمون أن تركيا تسعى إلى تحقيق السلام والتنمية والديمقراطية في المنطقة، وتدعم الشرعية السورية والوحدة الوطنية.
كذلك، يشيدون بالدور الذي تلعبه تركيا في تقديم الخدمات الأساسية لسكان عفرين، مثل الماء والكهرباء والصحة والتعليم والاتصالات والنقل والزراعة والتجارة، لكنهم يتجاهلون في الوقت عينه، حقيقةً مُرة، وهي أن القاطنين الحاليين في عفرين، ليسوا أهلها، وليسوا سكانها الأصليين، أنهم في غالبهم أو النسبة الساحقة لهم، غرباء جلبتهم الحرب السورية إلى عفرين، بتوافق الدول المتدخلة في الصراع السوري، وعلى رأسهم تركيا وروسيا.
فيما تحاول المعارضة السورية الترويج للنموذج التركي في عفرين، رغم علمها بتهجير غالبية سكان المنطقة الكردية، حيث ترفض الإقرار بذلك، وتساند على العكس منه، الهجمات التركية، رغم إدراكها بأن ذلك سيؤدي مستقبلاً إلى توطين دائم لأهالي حمص ودمشق وحماه وأرياف الكثير من المناطق السورية في عفرين، ومنعهم بالتالي من العودة إلى المناطق الأصلية التي ينحدرون منها، ومنع أهالي عفرين بالتالي من العودة لأرضهم وقراهم.
ذلك هو المضمون الذي أكده رئيس وفد المعارضة السورية لمباحثات أستانا، أحمد طعمة، في نهاية يناير الماضي، عندما أعلن عن تأييد الضربات التي توجهها القوات التركية و”الجيش الوطني السوري” لمناطق شمال وشرق سوريا، معتبراً أن الجيش التركي حليف وحامٍ للأمن القومي السوري.
قائلاً حينها، بأنه “لا صحة أبداً بأن الضربات التي توجهها القوات التركية والجيش الوطني التابع للمعارضة، إلى القوى الانفصالية “قسد”، بأنها تستهدف الأطفال والنساء أبداً”، متابعاً: “أما كون هذه الضربات شرعية أم غير شرعية، هي شرعية بالتأكيد، ونحن ندعمها ونؤيدها، لأن من يريد الضرر ببلادنا ويريد اقتطاع جزء من الأراضي السورية لصالح مشاريع لا تمت لسوريا بصلة فكيف يمكن أن نتصرف معها؟”.
مستدركاً بالقول: “بالنسبة لنا الجيش التركي هو جيش حليف يقوم بواجبين، واجب تجاه وطنه وهو حماية أمنه القومي، وأيضاً حماية أمننا القومي نحن كسوريين، ونحن متفقون على هذا، وهو لم يتعرض لأي سوري من أي نوع كان”، زاعماً: “هو تعرض بالقصف لعناصر قد قدمت من جبال قنديل، وهم ليسوا سوريين، ومصنفين وفق قرارات الأمم المتحدة على لوائح الإرهاب”.
منظمة تؤكد: الإنكار لا ينفي
وللمقارنة بين رواية أهالي ونسوة عفرين لواقعها الحالي، ووجهة نظر تركيا ومجالسها ومسلحيها من السوريين، قالت “سيماف حسن” من منظمة “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” في حديث خاص لشبكة آسو الإخبارية، في إطار تقييمها لوضع النساء الكرد في عفرين، بعد نحو 6 سنوات من الحرب: “وضع النساء في عفرين، لا يقل خطورة عن وضع كل أهالي عفرين، ويكون الاضطهاد مضاعفاً بحقهن”.
متابعةً: “كان التنكيل بجثة مقاتلة كُردية وقطع صدرها وأجزاء من جسدها من قبل “الجيش الوطني”، مؤشراً على المآلات السيئة التي ستواجه نساء عفرين، حيث تم توثيق حالات اعتداء جنسي وجسدي، وحالات احتجاز واختطاف واغتصاب، عدا عن حالات السرقة ومصادرة الممتلكات، وقصة السيدة المسنة ملك إيبو التي فقدت حياتها بعد أن صادر فصيل “صقور الشمال” أملاكها، أحد أوجه الجرائم التي ارتكبت بحق نساء عفرين”.
وحيال إنكار الاحتلال التركي ومجالسه وفصائله العسكرية التابعة له، التهم واعتبارهم لها دعاية مضادة، ذكرت “حسن” أن “عدم اعتراف تركيا بالجرائم ونفيها لا يعني عدم حصولها، لكن يقابل هذا النفي عشرات التقارير من قبل وسائل إعلام ومنظمات حقوقية سورية ودولية ولجان التحقيق التي تثبت حصول هذه الجرائم”.
وأشارت إلى أن “إحدى الخطوات الأخيرة التي اتبعتها منظمتهم (سوريون من أجل الحقيقة والعدالة)، بناءاً على الدلائل والاثباتات التي تفيد بحصول جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية، ضمنها العنف القائم على النوع الاجتماعي، هي الشكوى المقدمة للمدعي العام الألماني مع المركز الأوربي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان، لفتح تحقيق بالجرائم المرتكبة في عفرين منذ ٢٠١٨”.
وشددت “حسن” لشبكة آسو الإخبارية: “توجد منطقة مُحتلة تُرتكب فيها انتهاكات ممنهجة ضد سكانها الكرد، ومن ضمنهم النساء، ومن المجحف بحق الضحايا في عفرين، اعتبار كل الانتهاكات الموثقة المرتكبة بحقهم مجرد دعاية مغرضة، فيما تثبت التقارير الحقوقية إنها جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية”.
هل بات حال عفرين أفضل الآن؟
وبخصوص إن كان الوضع في عفرين، متجهاً نحو الاستقرار وتحسن الحياة، بالنسبة للنساء الكُرد وتمتعهن ببعض الحرية في عدم ارتداء ما لا يقتنعن به، بينت “حسن” لشبكة آسو الإخبارية، أن الوضع في عفرين لا يتجه نحو الاستقرار، إلا “إذا كان القصد من الاستقرار هو وجود أكثر من 70% من سكان عفرين الكُرد مهجرين قسراً خارجها”، مُستدركةً: “الاستقرار يعني عودة السكان الأصليين إلى عفرين، واستعادة بيوتهم وممتلكاتهم، أما الوضع حالياَ، فهو ببساطة تتريك وتغيير ديمغرافي وتطهير عرقي، ويتجه نحو تغيير وجه وشكل وثقافة ولغة المنطقة”.
مُركزةً على أن ما حصل في عفرين، هو فرض نمط معين من الحياة على الأهالي، و”الذهنية التي تفرض الحجاب غصباً على نساء إعزاز وريف إدلب، هي نفسها التي طردت ملك إيبو من منزلها، بحجة أنها من غير الممكن أن تسكن لوحدها دون محرم معها”، قائلةً إنها “ذهنية الميليشيات الإسلامية المسيطرة على عفرين، والتي لا تتوافق مع مبادئ حقوق النساء، ولا تتوافق مع الثقافة التي كانت سائدة بين نساء عفرين”.
وأنهت “سيماف حسن” حديثها لشبكة آسو الإخبارية، بالتشديد على أن منظمتهم “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة”، ستواصل “الإنجاز المهم الذي حصل”، وهو “توثيق الانتهاكات، ليس من قبل (سوريون) فقط، بل من قبل المنظمات الدولية ووسائل الإعلام التي تعمل بشكل احترافي، وعلى أساس هذا الجهد والتوثيقات المستقلة والمحايدة التي تمت خلال السنوات السابقة، تم تقديم الشكوى التي ذكرتها سابقاً من قبلنا وقبل ECCHR و6 من الناجين والناجيات من عفرين”.
وإلى أن تتحقق العدالة، وتعود الأمور إلى نصابها في عفرين، ستبقى السيدة “هيفين” خائفة على حفيدتها الصغيرة ومستقبلها، وستجبرها غالباً خلال العام أو العامين القادمين على ارتداء الحجاب، كي تكف أذى الشارع عنها، فيما ستبقى “رنكين” حبيسة المنزل، ولن تستطيع العودة إلى مزاولة عملها في التدريس أو غيره.
أما “أم لهنك” فلن يكون بمقدرها الدفاع كناشطة نسوية عن حقوق قريناتها، حتى إن كنّ يتعرضن للتعنيف والضرب أو مصادرة الأملاك والحقوق، كيف نعم، وهي لا تستطيع الدفاع عن حقوقها، بينما ستواصل “أم سوزان” التي جفت دموعها، السير في شوارع عفرين، وهي تعتقد أنها تعيش في أفغانستان!