مدونة آسو
طغيان الكلمة وفعله في إحداث الكراهية
هذه المادة منشورة بالتعاون بين شبكة الصحفيين الكُرد السوريين (SKJN) وشبكة آسو الإخبارية في برنامج تعاون ضمن مشروع إعلام يجمعنا، حول” تعزيز دور الإعلام في محاربة الإستقطاب وخطاب الكراهية من أجل مجتمع متماسك”.
صباح حمو
جليٌّ جلاء النهار أنّ الأفكار تؤثر في حياة الإنسان، فهي المحدد الأساسي لسلوكه وطريقته في الحياة، “والأفكار هي التي تجعل الحياة ورداً أو تجعلها أشواكاً” كما قال الفيلسوف اليوناني الشهير سقراط.
لكن ما لا يدركه معظم الناس أن تأثير الكلمات لا يقل عن تأثير الأفكار، لإن الأفكار في نهاية الأمر مقولات داخلية، فكل فكرة لا تُتخيل ولا تتواجد إن لم تتم قولبتها بقالب اللفظ أو الكلمة.
وأصدق من هذا التعبير ما ذهب إليه علم النفس حين خلص إلى إن وضع الأسماء والمصطلحات لبعض الأشياء يجعلها تنتقل من حالة العدم إلى حالة الوجود، بمعنى لا يمكن إدراك الأشياء ما لم توضع لها أسماء وكلمات تعبر عنها، إذاً والحال، هذه حياتنا ليست فقط من صنع أفكارنا إنما أيضاً من صنع كلماتنا.
والأخطر من هذا أن تأثير وسطوة وجبروت وطغيان الكلمة يتجاوز العمق الداخلي للكيان الإنساني إلى العالم الخارجي، والبيئة المحيطة، فالمجتمع.
فالإنسان الذي أبدع المجتمع لا لشيء سوى لضعفه، كان لا بدَّ من أن يتدارك هذا الضعف بالاعتماد على أبناء جلدته، وهذا الاعتماد لا يتحقق ولا يجد بصيص ضوءٍ إن لم تكن هناك كلمة.
والكلمة بالتعريف تعتبر أصغر وحدة في اللغة التي تعتبر من أهم وسائل الإتصال والتواصل بين البشر، بالمقابل تعتبر اللغة من أخطر الوسائل على الإطلاق، فمن السذاجة القول إننا نستخدم الكلمات، حقيقة الأمر هي التي تستخدمنا، بل الكلمات تطوّعنا أكثر ما نحن نطوّعها، تستخدمنا أوسع من ما نستخدمها.
بالمثال يتوضح المقال، في علم النفس العصبي حين يتعرض شخص ما لموقف مزعج مما لا شك فيه سيتحدث بكلماتٍ سلبية مباشرة تعطي الجينات الأوامر بإفراز ناقلات عصبية ومجموعة هرمونات تسمى هرمونات الإجهاد فيشعر الإنسان بالتعب والإجهاد.
هذا فيما يتعلق بالأثر الذي تحدثه الكلمة في ذات الإنسان، و عندما يكون الحديث عن علاقة الإنسان مع إنسان آخر، أي في المجتمع الذي وُجد بالأصل لإزلال العقبات والتخفيف من حدة الكوارث والدفاع ضد المخاطر، لا تقل أهمية الكلمة عن أهميتها في علاقة الإنسان مع ذاته، فشكسبير حين قال: إذا خرجت الكلمة لا تعود، كان يعلم ويوقن ما للكلمة من طغيان وجبروت في تواصل الإنسان مع غيره، فهي من تجعل الصحراء المقفرة روضة خضراء مزركشة، و تستطيع أن تجعل الفضاء الواسع مضيقاً.
ويبقى أثر الكلمة الجارحة أبعد وأعمق من أثر أداة حادة، لإن الإنسان كائن عاقل عاطفي يشعر ويُشعر، يضع نفسه داخل هالة من القداسة، ويصنع من ذاته إلهاً مصغراً له السمع والطاعة، فجُبُلته هكذا لأنه الكائن الوحيد العاقل له السطوة على سائر المخلوقات.
على هذا الأساس الكلمة سلاح ذو حدين، إما أن تستخدم لبناء المجتمع أو لهدمه، وكذلك لزيادة الألفة والمحبة بين الناس والبشر والعمل على تقوية المجتمع وتنميته وتطويره من خلال الاستخدام الصحيح والسوي للكلمة في بناء الفرد وتشجيعه على المساعدة والعطاء وتقديم المعونة، ويحدث العكس من ذلك عند الاستخدام السيء للكلمة من قبيل (الشتيمة، التنمر، التعصب الديني والقومي) وغيرها من المصطلحات التي تندرج تحت عنوان خطاب الكراهية.
كل ذلك من شأنه إحداث شرخ وشقاق بين أفراد المجتمع وتصغيرهم والحض من كرامتهم، ما يعيد الإنسان إلى حالته الطبيعية (الحالة البدائية) قبل أن يتأنسن، ففي تلك الحالة الإنسان لم يكن عون وعضد الإنسان بل كان الإنسان ذئب الإنسان، ما يشكل تهديداً للسلم المجتمعي.
ولا يخدعنا البعض أن التلفظ بألفاظ وكلمات جارحة مسيئة من حرية الرأي والتعبير، فبين حرية الرأي والتعبير و بين خطاب الكراهية شعرة رفيعة، فحين تتحول حرية الرأي والتعبير إلى أذى شخصي وإلى كرامة تُسلب، عندئذ تكون خطاباً محرضاً قائماً على الكراهية.
لا شك أن العلاقة بين جبروت وطغيان الكلمة وخطاب الكراهية علاقة عضوية قديمة قدم المجتمعات البشرية، تعود إلى فهم وتعريف ماهية الكلمة وفق ما تندرج تحته المصلحة القائمة. و السبب الأهم لما نعيشه من أزمة أخلاقية ثقافية متمثلة في إنكار الآخر كما يحصل في سوريا أو كما حصل في ألمانيا على يد هتلر الذي ظن أن العرق النازي من أعلى وأحسن الأعراق ما دفعه إلى إرتكاب مجازر بحق اليهود ما زالت شواهدها حاضرة في الإذهان إلى يومنا هذا، كما لا يجوز أن نغفل عن السياسة التركية الموجهة ضد الكرد وتسميتهم بأتراك الجبال أو السماح بقتل أي كردي لمجرد غنائه أغنية كردية.
كذلك يجب أن لا ننسى ارتباط الكلمة بالثقافة فمثلاً في المجتمع الغربي الأوروبي حين يقول شخص ما لفتاة ما أنت جميلة يُعتبر مجاملة وكلمة محببة في تلك الثقافة، أما في الثقافة الكونفوشيوسية يُعتبر إنتهاك للشخصية.
والأهم من هذا وذاك العامل الداخلي النفسي للإنسان وأصدق تعبير عن هذه الحالة ما قاله الفيلسوف الألماني المشهور بالمعلم إيكارت كل شخص لا يستطيع أن يحب كل الناس عنده مشكلة حقيقية في حب نفسه.
لذلك الإنسان غير المحب لذاته أما أن يقمعها ويقمع معها كل من حوله أو أن يعظمها على حساب تصغير الأخرين، اياً كان، النتيجة واحدة إيذاء الأخرين والتنقيص من قيمتهم.
من هنا نجد أن التواصل غير الناجح مرده إلى الفهم الخاطئ والسيء لماهية الكلمة أو استخدام الكلمة في الوقت و المكان غير المناسب.
بناءً على كل ما سبق يجب الإدراك كل الإدراك أن طغيان الكلمة يفعل فعله أكثر بكثير مما تفعله أدق الأسلحة تأثيراً، فالأسلحة الدقيقة قد تفتك بالإنسان فيزيائياً، أما جبروت وطغيان الكلمة يفتك به نفسياً وشعورياً، وتمتد الآثار إلى أبعد ما يأخذه فكر وخيال.
ولكن هذا لا يعني أن الإنسان لا يستطيع الحد من تأثيره وتقليص نفوذه على الذات البشرية، فبمجرد التفريق بين سطوة الكلمة وسحر الكلمة والتلفظ بكلماتٍ حميدة وتبني الكلمة الطيبة كعادة ومسلك، عندئذ لن يبقى لطغيان الكلمة وخطاب الكراهية القائم عليه اي تأثير يذكر، وعليه نقول: إن الكلمة مسؤولية فحافظ على ما بينك وبين أحبابك بالكلمة الطيبة.
*الصورة من النت