مدونة آسو
مأساة مُعاشة وأخرى مؤجّلة… كيف تُعمّق الحرب السورية أزمة البيئة والصحة؟
هذه المادة منشورة بالتعاون بين شبكة الصحفيين الكرد السوريين (SKJN) وشبكة آسو الإخبارية في برنامج تعاون ضمن مشروع “المرآة” حول حقوق الإنسان والحريات العامة.
برور ميدي
الحرب أو الصراع السوري -الذي مضى عليه ما يقارب عقد ونيف- لم يكن ذا عواقب إنسانية واقتصادية مدمرة فحسب، بل ألحق أيضًا أضراراً كبيرة بالبيئة في البلاد، وهي إحدى صور الدمار الذي لا يحظى بقدر كبير من الاهتمام، فيما قد يُلحق ضرراً محتملاً كبيراً من شأنه أن يخلف تأثيرات سلبية طويلة الأجل على الصحة العامة والاقتصاد، ولا بد أن يكون عنصراً محورياً في أي جهود ترمي إلى الإغاثة أو إعادة الإعمار في مرحلة ما بعد الصراع.
زيادة معدلات السرطانات
وفق ترجيحات الأطباء، فإن زيادة حجم التلوث الناجم عن عوادم السيارات وانتشار مولدات الكهرباء في الأحياء السكنية العاملة على المازوت الرديء المستخرج من حراقات بدائية لها تأثيرها السلبي على الصحة العامة وزيادة معدلات السرطانات في منطقة الجزيرة السورية بمحافظة الحسكة، شمال شرقي البلاد.
إذ حذرت مختصة كيميائية في معالجة الأورام السرطانية بمدينة قامشلو/القامشلي، من أن التلوث البيئي الناتج عن عودام السيارات المكتظة في المدينة وحراقات النفط البدائية، والمولدات الكهربائية التي تعمل بشكل مستمر على المازوت المكرر بطرق بدائية والتي تحمل مواد كيميائية سامة، تعد من أبرز أخطر المسببات لتزايد انتشار مرض السرطان شمال شرقي سوريا.
وشهدت المنطقة خلال السنوات الماضية كثرة انتشار الحراقات البدائية التي لا تزال بعضها قائمة في ريف قامشلو/القامشلي الشرقي وتأثير مخلفاتها على التربة الزراعية كما أن اكتظاظ المدينة بالسيارات ذات وقود الديزل والمولدات، واستنشاق عوادمها وكذلك انتشار الأوبئة من خلال نهر “جقجق “الملوث الذي يمر وسط المدينة، والذي يضخ مخلفات معامل الجينز ومعامل أخرى، بالإضافة إلى انتشار أبراج الإنترنت بكثافة ضمن مراكز المدن وأطرافها، كلها لها الأثر السلبي على البيئة والصحة العامة.
فيما قدرت مصادر أن نسبة كبيرة من المصابين نتيجة التلوث بالأمراض والسرطانات ممن يرتادون مشفى “البيروني” المتخصص بمعالجة السرطانات في دمشق، وهو المركز الوحيد في سوريا، هم من محافظة الحسكة، وتزداد نسبة الإصابات سنوياً، ما يجعل الارتباط وثيقاً بين العوامل القائمة المرتبطة بتلوث سماء وأرض المنطقة بازدياد مؤشر الأوبئة، خصوصاً أن كل أنواع السرطانات باتت منتشرة في مناطق شمال شرقي سوريا، وأكثرها شيوعا سرطان الرئة والثدي والكولون والخصية واللمفومات، وفق أخصائيين بأمراض الدم.
وقد حلت سوريا في المرتبة 18 بين أكثر الدول تلوثاً في العالم (من بين 92 دولة) عام 2019، وفقاً لتصنيف منظمة الصحة العالمية، كما ازدادت تقديرات الوفيات الناجمة عن الأمراض التي يسببها تلوث الهواء في الأماكن المفتوحة بنسبة 17% بين عامي 2010 و2017، بإجمالي 7,684 شخص.
تسرب المخلفات النفطية
في كانون الأول/ديسمبر عام 2023، استهدفت الدولة التركية المنشآت النفطية في حقول رميلان مما أدى لحدوث تضرر في أنابيب نقل النفط وحدوث تسرب نفطي على مجرى المياه الصادرة من محطة السويدية والتي تصل لمجرى وادي الرد حيث يلتقي بمجرى نهر جقجق في قرية أم كهفة في الريف الجنوبي لبلدة تل براك ويلتقي بمجرى نهر الخابور في مدينة الحسكة وصولاً لبحيرة السد الجنوبي في الحسكة.
وأدى هذا التسرب النفطي، بحسب بيان لهيئة البيئة شمال شرقي سوريا لحدوث تلوث كبير في المياه السطحية والجوفية وتلوث التربة في الأراضي الزراعية الممتدة على طول المجرى الملوث، حيث يحتوي النفط على غازات مرافقة انتشرت في الهواء وعناصر البيئة الثلاث (المياه والتربة والهواء) وتأثير هذا التلوث ممكن أن يمتد لفترات زمنية طويلة.
ويحتوي النفط على عناصر مشعة ومعادن ثقيلة وأملاح بتراكيز عالية تسبب مرض السرطان والأمراض الجلدية والتنفسية والهضمية، وتنتقل هذه الأمراض من التعامل المباشر مع المخلفات النفطية المتسربة وخلال تناول المزروعات المروية من المياه المتلوثة وتناول الحيوانات التي ترتوي من هذه المياه والأسماك التي تعيش في بحيرة السد الجنوبي في الحسكة، وعن طريق تنفس الهواء الملوث بالغازات المنطلقة المرافقة للنفط، كما تلوثت مساحات واسعة من الأراضي الزراعية الممتدة على طول المجرى واحتمالية خروج هذه الأراضي عن قابلية الزراعة نتيجة المعادن الثقيلة والأملاح التي يحملها النفط، حيث يؤثر ذلك بشكل كبير على اقتصاد المنطقة التي تعتمد على الزراعة كمورد رئيسي للاقتصاد.
كما أن تسرب المخلفات النفطية إلى الأنهار يمكن أن يؤدي إلى تأثيرات سلبية على الصحة والبيئة في مناطق شمال شرقي سوريا، والتي تحتمل تلوث المياه الجوفية السطحية، يؤدي ذلك إلى تلوث مصادر المياه المستخدمة للشرب والري، مما يعرض السكان للمخاطر الصحية، كما يؤدي التلوث النفطي إلى موت الكائنات الحية في الأنهار والمسطحات المائية ويؤثر ذلك على التوازن البيئي والتنوع البيولوجي، وقد يتسبب التلوث النفطي في تلف النباتات والأشجار على ضفاف الأنهار ما يؤدي ذلك إلى تقليل الغطاء النباتي وتدهور البيئة البرية.
لذا من الضروري التصدي لهذه المشكلة، عبر تطبيق قوانين محلية صارمة تتعلق بجودة المواد والسلامة، وتعزيز التوعية بأهمية الحفاظ على البيئة والصحة.
التصحر والجفاف
رغم أن العقد الاجتماعي للإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا يعطي أهمية كبيرة للبيئة ويُشير إلى اعتماد المجتمع الديمقراطي البيئي. هذا يعني التزام الإدارة بمبادئ الحفاظ على البيئة وتطويرها بشكل مستدام ومسؤول، واستحدثت مؤخراً هيئة البيئة بشكل مستقل عن هيئة البلديات، فيما تعاني مناطق شمال شرقي سوريا من تهديد حقيقي لأمن وسلامة البيئة، بزيادة التصحر نتيجة التأثيرات المناخية والجفاف، بحسب مدير جمعية بيئية في شمال شرقي سوريا.
وتُعد سوريا من أكثر الدول تأثراً بالجفاف، فقد واجهت المنطقة موجات جفاف شديدة خلال السنوات الماضية والتي لا تزال مستمرة، ما أدى إلى انتشار التصحر على مساحات واسعة من الأراضي السورية، وفقاً للتقارير الدولية.
وسجلت محافظة الحسكة في عام 2023، معدلات هطول أمطار قدرت على أنها أقل بـ 60% من المتوسط الموثق خلال السنوات الثلاثة الماضية، لتتوافق هذه النسبة مع إنذار الجفاف الذي أصدره” المرصد العالمي للجفاف “(GDO) بخصوص شرق سوريا في نيسان/أبريل 2021.
وصادف يوم 17 حزيران/يونيو الجاري، اليوم العالمي لمكافحة التصحر والجفاف، وتهدف هذه المناسبة التي حملت هذا العام شعار”متحدون من أجل الأرض “إلى تعزيز الوعي بتحديات الجفاف والتصحر في العالم.
ويحذر زيور شيخو، مدير جمعية الجدائل الخضراء البيئية، من التهديد الكبير للبيئة شمال شرقي سوريا ويرى أن المشاكل البيئية جميعها تستدعي منا إيجاد الحلول المناسبة لها والعمل على إصلاحها لعدم تفاقم هذه المشاكل التي تهدد بيئتنا.
وفي خريف عام 2020، أطلق خمسة متطوعين، بينهم زيور شيخو، حملة للتشجير في منطقة شمال شرقي سوريا ضمن مبادرة تحمل اسم “الجدائل الخضراء” بهدف زراعة أربعة ملايين شجرة خلال مدة أقصاها خمسة أعوام، فيما بعد مرور أربعة أعوام تواجه الجمعية ومنظمات بيئية أخرى العديد من الصعوبات والتحديات، على حد قوله.
ويُشير شيخو إلى أن الواقع البيئي في مناطق شمال وشرق سوريا يحتاج إلى إعلان حالة طوارئ بيئية، ويربط ذلك بعدة أسباب منها قيام الدولة التركية بإنشاء السدود على نهري دجلة والفرات، ويرى أن المنطقة ككل تشهد واقعاً بيئياً ملوثاً الذي يشمل تلوث الهواء والتربة، مُحذراً من أن الواقع البيئي كارثي على الصعيد الغذائي والصحة العامة.
كما تتأثر البيئة شمال شرقي سوريا بتراجع المساحات الخضراء نتيجة غياب الدعم إلى جانب شح مصادر المياه، وتحكم تركيا وفق تقارير دولية بحصة سوريا من مياه نهر الفرات، الذي يعتمد عليه أكثر من خمسة ملايين نسمة في سوريا كمصدر رئيسي للحصول على مياه الشرب والري وفق تقديرات الأمم المتحدة، حيث تمّ تسجيل أدنى مستويات تدفّق للمياه، والتي بلغت 200 متر مكعب في الثانية، مراتٍ عديدة وفي فتراتٍ مختلفة منذ عام 2019، في حين تنصّ اتفاقية تنظيم جريان نهر الفرات بين تركيا وسوريا على تدفق 500 متر مكعب في الثانية، ما ألحق ضرراً بالنظام البيئي المائي والتنوع البيولوجي في شمال شرق سوريا.
وتُصنّف سوريا بلداً ذا مناخ جاف وشبه جاف، وتشير الدراسات إلى أن التصحر أصبح يهدد مساحات كبيرة من أراضيها، إذ تقدر بأكثر من نصف مساحتها (187 ألف) كيلو متر مربع. وفي شمال وشرق وسوريا، تبلغ المساحة التي تصحرت فعلاً قرابة 15 ألف هكتار، والمساحة المهددة بالتصحر 85 بالمئة تقريباً، حسب دراسة لهيئة البيئة في الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا.
كما أن جفاف العشرات من الأنهار المحلية خصوصاً تلك التي تمر وسط المدن كنهر “جقجق” الذي يمر وسط مدينة قامشلو/ القامشلي ونهر “الخابور” الذي يمر من مدينتي تل تمر والحسكة، ينذر بانتشار الأوبئة وأمراض الكوليرا وسط تحول بعض الأنهار لمكب ونفايات ومخلفات مجاري الصرف الصحي.
مبادرات و”صفر ميزانية”
في السابع عشر من نيسان/أبريل من العام الفائت، نشرت مؤسسة” هرماس للإعمار والتنمية المستدامة” على موقعها الرسمي، أنها “بمساعدة عدد من الخبراء الأكاديميين والزملاء المهندسين وبعد دراسات مستفيضة دامت حوالي عشرة أشهر، فقد أنجزت المخططات التنفيذية الكاملة ودفاتر الشروط الفنية لمشروع إحياء نهر جقجق”.
“هرماس” هو الاسم التاريخي الذي كان يطلق على نهر “جقجق”، وبحسب القائمين على المؤسسة تعد هذه الدراسة “الأولى من نوعها على الصعيد المحلي والعالمي، حيث اعتمدت الحلول البيئية المستدامة”، بحسب أحد مسؤولي المؤسسة وصاحب المشروع الدكتور “آزاد علي”، الذي أكد مسعاهم لإحياء النهر، وتقدموا بدراسة مستفيضة لأكثر من ستة أشهر، وتم تسليم الدراسة إلى هيئة البلديات والبيئة التي وصف أداءها بالمتقاعس.
وكان من المفترض أن يبدأ المشروع منتصف العام الفائت، كتجربة لمسافة 150 متراً كمرحلة أولية عبر إيقاف مجاري الصرف الصحي وفلترة مياه النهر، بالإضافة إلى مشروع تشجير النهر للتخلص من الروائح الكريهة التي تنبعث من النهر، فيما لم يبدأ المشروع لغياب التمويل بحسب مسؤول المؤسسة الذي لم يكشف عن تكاليف المشروع ومخططه ومدة تنفيذه، بينما أشارت مصادر مطلعة أن المشروع كانت قيمته نحو مليون دولار أمريكي.
بدوره يؤكد الرئيس المشترك لهيئة البيئة في مقاطعة الجزيرة، محمد أحمي، أن لا تمويل لمشاريع البيئة والميزانية صفر لهيئة البيئة في ظل إعلان الإدارة الذاتية عن عجز في موازنتها الحالية، وبعد منتصف العام الجاري، أعلنت الإدارة الذاتية عن موازنة العام 2024 وقدرت قيمة العجز المالي بقيمة 389 مليون دولار أميركي، وتوقعت الإدارة أن تبلغ إيراداتها خلال العام الجاري 670 مليون دولار أميركي بينما قيمة النفقات ستبلغ مليار وتسعة وخمسون مليون دولار أميركي.
فيما يشير مسؤول البيئة إلى أنهم يولون أهمية كبيرة للمشاكل البيئية شمال شرقي سوريا التي تفوق طاقة الإدارة الذاتية حسب وصفه، وأنها تحتاج إمكانات ضخمة، فيما نوه بأنهم قاموا في السابق بمشاريع بيئية كإغلاق مكب نفايات” نافكوري” غرب القامشلي، الذي كان يعاني منه سكان المدينة لعقود، وخصصت الإدارة الذاتية منتصف عام 2021 ميزانية للمشروع بنحو 900 ألف دولار أمريكي وحولت المكب فيما بعد إلى غابة اصطناعية تحوي نحو 3500 شجرة بمساعدة جمعية “الأمن والسلام” الألمانية، وفق المسؤول البيئي.
وأضاف أن هناك مكبات أخرى في ريفي القامشلي والحسكة، وهي قيد الدراسة، فيما تهتم هيئة البيئة بموضوع التشجير ونظافة المحميات وتعمل حالياً على دراسة مشروع قانون بيئي توعوي إلى جانب تغريم المخالفين لنظافة البيئة مالياً وكذلك العمل على إعداد دراسة لتركيب ألواح الطاقة الشمسية لتوليد الكهرباء وهي تحتاج دعم من منظمات دولية على حد قوله: للحد من انتشار التلوث الناجم عن المولدات الكهربائية التي تنتشر نحو 600 مولدة تعمل في مركز مدينة القامشلي وحدها في ظل إقبال السكان عليها بعد انقطاع الكهرباء العامة عن المدينة جراء خروج المحطات والعنفات عن الخدمة عقب القصف التركي الأخير منتصف كانون الثاني/يناير من العام الحالي.
*الصورة من النت