مواطن وعدالة
متسولو “منبج” تحت المجهر… حكايات من فانتازيا الحرب
آسو-أحمد دملخي
وُجوه شاحبة وملابس بالية، وبنبرة توّسلٍ أقرب إلى البكاء، يسألونك العطف عليهم والرأفة لحالِهم، يستعملون شتى أنواع الكلمات الأكثر تأثيرا في نفسك، لكي تحن وتمد يدك إلى جيبك وتُخرج منه ليرات معدودة تمنحها إياهم، لتسمع الدعوات بالخير والنجاح وغيرها تنهال على مسمعك، لتردد “آمين” علنًا أو في قرارة نفسك.
التسوّل، ليس ظاهرة جديدة، لكن الجديد فيها نوعية المُتسولين وطرق اشتغالهم لدرجة أصبحت عند كثيرين مهنة لها قواعدها وأمكنتها الخاصة، ولم تعد مقتصرة على المعوزين من الشيوخ والنساء والأطفال، بل إن فئة كبيرة من الشباب أصبحت هي الأخرى، تنتشر في الطرقات للتسوّل.
وفي مدينة “منبج” التي بالرغم من أنها تُعتبر مدينة مستقرة مقارنة بمدن سورية كثيرة، لكنها تشهد كثافة المتسولين.
يقول “أبو أسامة” من سكان منبج إن المدينة شهدت تحولات كثيرة، “شهدت المدينة قدوم نازحين كثر من محافظات مختلفة، اليوم نرى أيضًا كثافة في المتسولين هذا يعود لظروف سوريا عامة وهو أمر يحتاج للوقوف عليه من قبل السلطات المحلية”.
مراسل شبكة آسو الإخبارية، تجول في أسواق منبج، تواصل مع كثير من المتسولين، غالبيتهم كان يهرب من الحديث والتصوير، كما أن التصوير مع الأطفال والنساء يشكل حساسية، تم اتخاذ لقاءات شفهية مع المتسوليين للبحث في ظروفهم وأسباب التسول.
تقول “فاطمة” التي تقف في أحد أحياء منبج ولم يتجاوز عمرها 10 سنوات لشبكة آسو الإخبارية، إنها وعائلتها يعيشون واقع صعب “بسبب الحرب انتقلت من مدينتهم إلى منبج قبل نحو 4 سنوات بهدف البحث عن عمل، في البداية عمل والدها في المدينة لكن مع تدهور الوضع قرر السفر إلى تركيا للعمل هناك (كانت هي آخر مرة تراه فيها… ولم تسمع عنه أي خبر حتى الآن)”.
غياب والدها حملها مسؤولية الإعانة
غياب والد فاطمة حملها مسؤولية العمل لأجل مساعدة أهلها وهي التي تكبر أخواتها الثلاث تقول “فاطمة”: “خلال العام الأول من غياب أبي صمدنا على المساعدة المقدمة من الجيران والأهالي في الحي، لكن هذه المساعدات توقفت بسبب معارك تحرير المدينة فكل عائلة باتت تبحث في همومها”.
بعد التحرير لم نجد أنا ووالدتي أي طريقة لنسد رمقنا، كانت الأيام تمر بصعوبة، لا طعام ولا شراب، لا أحد يطرق بابنا تقول “فاطمة” وهي تدرك معنى ما تقول حيث إنها تحملت مسؤولية تأمين رزق أهلها وهي في هذا السن. “بعد التحرير وبعد انقطاع السبل وبسبب أن عمري لا يسمح بالعمل ومرض أمي قهرًا على غياب والدي وانتظار أخواتي كل يوم عند عودتنا أن نحمل بأيدينا طعام أو شراب أو ملبس، أجبرني وأمي على التسول كي نؤمن حياتنا”.
تسلك فاطمة ووالدتها مسافات طويلة كل يوم كي تقوما بتأمين بضع ليرات تسد حاجة المنزل لكن تذكر فاطمة أن هناك أصحاب محال في منبج وأناس آخرون يقدمون المساعدات المادية والعينية لهم.
تتنهد “فاطمة” وتكمل حديثها وهو كأنه حديث لكبار وليس طفل في عمر “فاطمة” تقول موجهة الحديث لمراسل شبكة آسو الإخبارية “قد تنظر إلي بنظرة شفقة! لكن هناك الكثير من الناس من ينظر إلينا بنظرة احتقار”.
“ليس ذنبي أنني أعيش في عائلة شتتتها ظروف الحرب، بعد فقدان والدي لم يبق لنا أي سند، اسمع الكثير من الناس يقولون عنا بـ (أننا أصحاب مال)، أو (أننا لا نشبع) لكن لو وجدت المال الكافي لأعيش به لما كنت أتحمل هذه الإهانات والكلمات التي تقطع روحي كالسكين”.
أمنية “فاطمة” أن تكبر وتستطيع العمل لمساعدة أهلها وتضيف “عندما أعمل سأترك هذا المستنقع الموحل الذي غطست به مع عدد لا يحصى من الأهالي في بلدي وليس هنا فقط”.
تعمل بدل زوجها المقعد لإعانة العائلة
“أم تيسير” التي تحمل طفلها ولم يكمل العام الواحد، تجوب الأسواق وتطلب من المارة وأهالي المحال التجارية صدقة ولو صغيرة من زكاة أموالهم، ربما يعطيها أحدهم بعض المال لكنه سيقوم بإسماعها كلام جارح والبعض الآخر يساعدها بصمت ذلك في سبيل تأمين متطلبات منزلها وزوجها المقعد فهي تتحمل هذه المصاعب.
كانت “أم تيسير” تعمل في مجال التنظيف في منازل العديد من النساء في منبج، “كنت محبوبة وأتلقى المساعدة منهم والمكافآت على عملي”. لكن بعد تحرير منبج وتغيير الظروف في المدينة لم تعد تستطيع العمل في المنازل تقول أم تيسير “لم يعد أحد يطلبني للعمل لأنني من منطقة السفيرة بريف حلب وهي منطقة ارتبط اسمها بداعش كثيرًا لذا بعد تحرير منبج تمت محاسبتي بناء على أنني من السفيرة”.
تكرر “أم تيسير” مقولة “ليس لي أي شأن بداعش” تكرر الكلمة محاولة إقناع كل من حولها أن سبب أنها من السفيرة ليس كافٍ ليكون ذلك تهمة موجهة لي (…)! تقول “صحيح أن التنظيم استغل أبناء السفيرة لإيصال الأذى بالأهالي هذا واقع لكن ليس جميع أهل السفيرة راضين عن التنظيم في الأساس”.
وتتابع “لقد أصيب زوجي نتيجة سقوطه أثناء عمله في مجال البناء فأضحى مقعدًا، لقد تلقينا مساعدات من المنظمات المدنية لمرة واحدة لكنها لم تكفِ، واليوم أقل وصفة طبية تحتاج مبلغ عشرة آلاف ليرة”.
لم أتلق المساعدة فاضطررت للتسول..
سعت “أم تيسير” البحث عن عمل لكن لم تتلق المساعدة في ذلك “اضطررت لجلب طفلي والبدء بالتسول كي أستطيع رعاية عائلتي فأخرج في الصباح الباكر وأعود بعد الظهر، ثم أخرج ثانية بعد استراحة ساعة أو اكثر حسب الوضع”.
تتعرض “أم تيسير” في السوق أيضِا لكلام مهين “هناك من يصفني بأنني استخدم طفلي للتسول ومحاولة استعطاف الناس لكن هذا الأمر لا تفعله أي أم فهو وحيدي ولو كانت الأمور بيدي لكنت جعلته فوق رأسي لا في حضني فقط فعائلتي كل شيء في هذه الحياة”.
التسول ظهر بكثافة بعد الحرب
“أبو محمد” يعمل في محل للصرافة في السوق المسقوف يعيد كثافة ظاهرة التسول بين النساء إلى مرحلة ما بعد الحرب في سوريا وتتابع الأزمة واستمرارها “في السابق كان التسول مقتصرًا على فئة محددة من الناس في منبج (يقصد هنا الغجر المتواجدين في الخيم على أطراف المدينة)، واليوم تجد عدد كبير من المتسولين في الأسواق والشوارع وهم يطلقون عبارات الدعاء و الرجاء بين المارة وأصحاب المحال حيث كانت الناس في البداية تساعدهم، لكن تواجد أشخاص جعلوا من هذه الظاهرة مهنة لهم جعل الكثيرين من الناس يترددون في المساعدة”.
لا ينكر “أبو محمد” ضرورة مساعدة المحتاجين من قبل الناس لكنه يصف الأمر أنه أصبح بـ “الكارثة” يفسر قوله بأنه مجرد إعطاء متسول منهم مبلغ بسيط سيجمع عليك عدد كبير منهم وخاصة النساء، “لذلك استخدم في بعض الأوقات نبرة عصبية في إبعادهم عن مكان عملي فتواجدهم فيه يسبب ايقاف للعمل كما أنني تضررت من عمليات سرقة خلال الازدحام رغم حذري، وكان المتسولون هم المشتبه الأول في هذه السرقات”.
يستمر “أبو محمد” في الحديث بأن على السلطات في المدينة متابعة موضوع التسول “هناك الكثير من المتسولين ليسوا بحاجة، واستخدام الأطفال في التسول يترك أثراً سلبي على الأهالي قبل الزوار، فهو منظر غير حضاري ويدل على الاستغلال”.
المسؤولون في المدينة يتابعون الظاهرة لكن هل وجدوا حلول!
“عبير البرهو” نائبة في لجنة الشؤون الاجتماعية والعمل في منبج. وهي نائبة في اللجنة عن ظاهرة التسول فتقول “نحن في لجنة الشؤون الاجتماعية والعمل في منبج قمنا بجولة في أسواق المدينة وطلبنا من النساء اللواتي يتسولن فيها بالتوجه للجنة الشؤون الاجتماعية والعمل لتسجيل أسمائهن وذلك لتأمين فرص عمل لهم في مجالات متعددة”.
تضيف “عبير” بأنه انتشار ظاهرة التسول واستغلال الأطفال جعلهم يقومون بالتنسيق مع لجنة الداخلية وقوى الأمن الداخلي لمراقبة ومعرفة خلفية المتسولين من النساء، والتحقيق في وضعهن المادي والبحث إن كان هناك من يتسول دون الحاجة، “تلك سيتم محاسبتهن خاصة من يستخدمن الأطفال منهن، بينما من يتضح أنها بحاجة للعمل يتم أخذ عنوان منزلها أو مكان الإقامة ويقدم للمنظمات الانسانية التي تعتني بالفقراء والتأكيد عليها للمساعدة بشكل دائم”.
تعتبر “البرهو” أن الخطوات التي قامت بها لجنة الشؤون الاجتماعية والعمل ليست علاجية بشكل تام “وضع حد للظاهرة يحتاج لتكافل الجهود بين السلطات المحلية والأهالي للحد من هذه الظاهرة، فلو كانت كل النساء المتسولات في المدينة بحاجة، فهذا دليل على نقص الدعم و تأمين المستلزمات الحياتية البسيطة لعدد كبير من الأهالي، ولو كان عدد كبير منهم يتخذ التسول مهنة فهذا دليل على نقص التوعية أيضاً”.
حلول لأجل الحد من الظاهرة..
قامت لجنة الشؤون بتقديم خطة للمجلس التنفيذي في المدينة ترتكز على افتتاح مراكز تدريب تأهيل مهني للنساء، بهدف تقديم مساعدات تدريب مهني ومحو أمية للنساء اللواتي تتسولن في الأسواق كما تم مناقشة واقع الأطفال المتسولين مع لجنة التربية لوضعهم في المدارس التعليمية”.
بعيدًا عن ظروف الحرب والأزمة تربط “البرهو” ظاهرة التسول أيضًا بالجهل وعدم الثقة بالنفس فتقول إن المرأة التي تثق بنفسها لا تحتاج للاعتماد على إحسان الناس لها “يجب أن تبحث المرأة عن حلول أخرى في مجال تأمين مستلزمات الحياة، فهي اليوم مثل الرجل”.
من وجهة نظر “عبير” أيضًا المجتمع سبب رئيسي في انتشار ظاهرة التسول بين النساء “لو تركت المرأة تتعلم وتعمل لما كانت تستجدي الناس اليوم، فالعلم قوة فعالة في تغير الظروف مهما كانت قاسية “.
تنتشر ظاهرة التسول في سوريا عامة بعد الأزمة فقد تجد في كثير من الأحيان متسولين صادقين بحاجتهم وقد تشاهد من يستغل الناس كي يستجر استعطافهم، وهذا ظرف اجتماعي يحتاج للنظر فيه من الإدارات والمجتمع سوية.