مدونة آسو
عمالة الأطفال في شمال وشرق سوريا… الأسباب والأضرار والحلول
هذه المادة منشورة بالتعاون بين شبكة الصحفيين الكرد السوريين (SKJN) وشبكة آسو الإخبارية في برنامج تعاون ضمن مشروع “المرآة” حول حقوق الإنسان والحريات العامة.
براءة محمد
تعتبر ظاهرة عمالة الأطفال من القضايا الإنسانية الهامة التي تحتاج إلى اهتمام ومعالجة، فالأطفال أساس المستقبل، لذلك يجب حمايتهم والعناية بتعليمهم، وتنشئتهم بعيدا عن بيئة العمل وأعبائها التي تؤثر سلبا على نموهم الجسدي والعقلي والاجتماعي، وحماية حقهم في حياة آمنة ومستقرة والعيش في بيئة طبيعية يتمتعون بحقوقهم مثل التعليم واللعب.
تشكل عمالة الأطفال قضية اجتماعية ملحة في مناطق شمال وشرق سوريا التي تشهد أوضاعاً إنسانية صعبة، وحالة عدم أمن واستقرار نسبية، نتيجة الحرب التي تشهدها البلاد منذ أكثر من عقد من الزمن، إضافة للهجمات التركية المتكررة على المنطقة، ما يدفع العديد من العائلات إلى إرسال أطفالهم للعمل لتأمين معيشتهم، بدلا من اللعب والتمتع بصحة جسدية ونمو طبيعي، وفقدانهم فرصة التعلم في المدارس، وما ينطوي عليه عملهم من آثار نفسية وجسدية واجتماعية.
أطفال في سوق العمل
تعد الأوضاع الاقتصادية الصعبة والفقر من بين الأسباب الرئيسية التي تدفع الأطفال للنزول إلى سوق العمل، ففي بعض الأسر يكون الطفل هو المسؤول عن تلبية حاجاتهم وتوفير لقمة العيش لهم، الأمر الذي يجعل كثير من الأطفال مجبرين على العمل وهو ما يحرمهم من فرص التعليم، حيث تتنوع الأعمال التي يقوم بها الأطفال، فبات مشهد الأطفال وهم يجوبون الشوارع لبيع علب المحارم أو البسكويت، أو لتسول المال أو الطعام ومزاولة أعمال مختلفة مظهرا مألوفا في مختلف شوارع مدن المنطقة.
يعمل يوسف 9 أعوام وشيخموس 12 عاماً من قامشلو/ القامشلي على بسطة صغيرة لبيع الفواكه الموسمية، ينتمي الطفلان لأسرة فقيرة مكونة من 3 أطفال وأب مسنّ وأمهم، يقول شيخموس: “نخرج للعمل منذ ساعات الصباح الأولى، ندفع عربتنا من الحي الذي نسكن فيه ونتجه للعمل في السوق، نتجول في الأسواق حتى نفاد بضاعتنا، ونعمل في مختلف الظروف، في الشتاء نتحمل البرد الشديد، أحيانا يهطل علينا المطر فنحتمي في ظل أحد المحال، ونتحمل أيضا حرَ الصيف”، موضحا أن غلتهم تصل في اليوم إلى حوالي 50 ألف ليرة سورية.
ويبيّن يوسف أنّه يحلم بالذهاب إلى المدرسة للتعلم واللعب مع أقرانه من الأطفال، لكن ظروف العمل تمنعهما هو وشقيقه من ذلك: “نحب المدرسة لكننا لا نستطيع ارتيادها، فإذا لم نعمل فإن أسرتنا لن تأكل، لكننا رغم ذلك نحاول التعلم في المنزل فيقوم أخي شيخموس بتعليمي القراءة عند عودتنا إلى البيت”.
أما عن الأسباب التي دفعت الطفل رامي 13 عاما من قامشلو/ القامشلي، أن يجوب شوارع المدينة لبيع قطع البسكويت، فيقول: “أعمل لأساعد أمي في عملها لتامين معيشتنا فنحن 4 أخوة؛ ولدان وبنتان، وأنا أكبرهم سناً، تخلى والدي عنَا، وذهب للعيش في مدينة الحسكة”.
ويوضح رامي أنه يحاول أن يوفق بين الذهاب الى المدرسة والعمل: “استيقظ باكرا لأقوم بمراجعة وحفظ واجباتي المدرسية، وبعد الانصراف من المدرسة اتجه إلى السوق للعمل”، مشيرا إلى أنه يعود إلى المنزل في وقت متأخر من الليل وقد أنهكه التعب والجوع.
تقوم راما 9 أعوام بجمع العلب البلاستيكية في وقت متأخر من الليل وتقول: “لا اريد الذهاب إلى المدرسة لأن الطلاب/ات يرفضون الاقتراب مني، أو الحديث معي ويقومون بشتمي (انقلعي يا زبالة)”.
وعن تعرضها للضرب أو الاعتداء من أحد المارة، خاصة أنها تعمل حتى ساعات متأخرة من الليل، تقول راما: “لم يسبق أن ضربني أحد ولم يعترضني أحد، فأنا انتظر أختي التي تكبرني حتى نعود إلى المنزل معا، بعد جمع ما يمكننا جمعه من العلب البلاستيكية”، مبينة أنها تشعر بالتعب الشديد نتيجة عملها لساعات طويلة وأن يديها المتشققتان من العمل والبرد تؤلمانها كثيرا.
تجوب أم أنس، وهي نازحة من ريف حلب مع طفلتيها التوأم اللتان تبلغان من العمر 6 أعوام الشوارع بحثا عن العلب البلاستيكية لبيعها، فتقول: “أخرج للعمل مع طفلتي فوضعنا المادي سيء جداً، ولا يمكنني تركهما في المنزل بمفردهما، خاصة أنني أعود في وقت متأخر إلى المنزل”، مؤكدة عدم إرسالهما إلى المدرسة، لأنها لا تستطيع تأمين مستلزمات التعليم “فما نجنيه من عملنا بالكاد يسد رمقنا في ظل الارتفاع الكبير للأسعار”.
أما سعاد من ريف قامشلو/ القامشلي الجنوبي، وهي أم لـ5 أطفال تقول: “توفي زوجي وبقيت وأطفالي بلا معيل، لذلك أقوم بإرسال ابني 14 عاماً للعمل في محل الحدادة، فأنا مجبرة على إرساله للعمل، فعملي في جمع الورق والعلب البلاستيكية لا يكفي معيشتنا، ولا يمكنني تحمل نفقة دراسته، لذلك فهو سيتعلم صنعة يستفيد منها في المستقبل”.
ويرى جوان عيسو “محامي وناشط حقوقي”، أن حالة عدم الاستقرار وحالة الحرب المستمرة والظروف الاقتصادية الصعبة التي يعيشها السوريين عامة، وأهالي شمال وشرق سوريا على وجه الخصوص، هي سبب رئيسي لعمالة الأطفال: “فمسألة حالة الحرب، وعمليات التهجير والاحتلال والنزوح المستمر وتدمير البنى التحتية والمجتمعية نتيجة الحرب، والوضع الاقتصادي والمعيشي السيء لبعض العائلات، كلها أسباب تجبر الأهالي على إرسال أطفالهم للعمل بدلا من المدرسة”.
ويبين عيسو أن تضارب مناهج التعليم في المنطقة، وارتفاع تكاليف التعليم وهجرة المدرسين/ات والكفاءات العلمية إلى خارج البلاد “ساهم في زيادة تفكك الأسر”، وانتشار عمالة الأطفال على نحو كبير.
تأثير عمالة الأطفال على صحتهم الجسدية والنفسية والاجتماعية
تعد عمالة الأطفال ظاهرة قاسية ومدمرة لهم، فهي تترك آثارا سلبية على حياتهم، فإلى جانب فقدانهم بعضا من حقوهم الأساسية، فإنها تنطوي على أخطار بدنية ونفسية متنوعة منها التحرش والاستغلال الجنسي، كما أن ظروف العمل الصعبة قد تعرضهم لأمراض العمل وإصاباته وأخطاره وتؤثر على نموهم الطبيعي.
وقد يعاني الأطفال العاملون من القلق والاكتئاب ونقص التفاعل الاجتماعي، كذلك يحرمون من حقهم في التعليم واللعب والعيش في بيئة آمنة ومستقرة، ما ينتج عنه تفشي عادات وظواهر سلبية بين الأطفال كالتدخين وتعاطي المخدرات، وتفضيلهم جني المال على العلم والتعليم.
تتحدث زينة بهجت الحسن، وهي طبيبة أطفال، عن أكثر الأمراض شيوعا لدى الطفل الذي يقوم بعمليات البيع والشراء والتنقلات: “يعد فقر الدم الحاد وسوء التغذية وعدم الاهتمام الكافي بتغذية الطفل، من أكثر الأمراض شيوعا لدى الأطفال العاملين”، وتتابع هناك أمراض أخرى كتأخر نمو الطفل، بسبب فقر الدم الناتج عن سوء التغذية، وعدم أخذ كميات كافية من المعادن والفيتامينات “فالطفل العامل لا يستطيع خلق برنامج غذائي صحي لنفسه أو في بيئة منزله كونه يتوجب عليه إطعام أطفال أصغر منه سنا”.
وتشير “طبيبة الأطفال” إلى تعرض الأطفال أحيانا إلى إصابات في الجهاز الهيكلي(العظمي)، نتيجة سقوطهم خلال العمل أو تعرضهم للكسور وخاصة كسور الأطراف أو نتيجة تعرضهم لحوادث سير خلال قطعهم للشارع دون انتباه، ومن الأمراض التي قد يصاب بها الأطفال كما تذكر “الحسن”: “الإنتانات (الالتهاب) في الطرفين السفليين، نتيجة عدم الاهتمام بنظافة الطفل خاصة الذين يعملون في جمع النفايات لإعادة تدويرها”.
أما عن التأثيرات النفسية التي يتعرض لها الأطفال العاملون تقول الطبيبة زينة: “يعاني الأطفال من نقص تقدير الذات، دائما لديهم شعار أو عبارة (أنا أقل من غيري وهم أفضل مني)، وهذا النقص جاء نتيجة سلب حقوق الطفل في اللعب والتعليم والحق في عيش حياة آمنة ومستقرة”، مبينة أن هذا النقص قد يكون مصدره العائلة أو الجوار الذي ينمَونه في داخله “فيسبب ضعفاً في تركيب شخصية الطفل، الذي هو بطبيعة الحال بحاجة إلى عاطفة كبيرة، وفهم عميق وكبير لاحتياجاته النفسية”.
وتبين الحسن إن الاكتئاب من الأمراض النفسية التي تصيب الأطفال العاملين، وقد يتطور إلى اكتئاب حاد في بعض الأحيان “نتيجة سوء الحالة العامة للطفل وتردي الوضع الصحي، ونتيجة اختلاطهم مع فئات عمرية أكبر منهم، وبشكل كبير يجعلهم يلاحظون أشياء غريبة ليس لديهم إدراك معرفي كافٍ حولها، فتختلط عليهم الأمور”.
وتشير الطبيبة إلى التأثير السلبي للعمل في سن مبكرة على السلوك والنمط الاجتماعي للطفل: فـ”تكون شخصية الطفل مهمشة تميل للكسب فقط، وفي هذه الحالة تتسم شخصية الطفل بالنزاقة والعصبية، كما أن ردود فعله سريعة وخاطئة، فهو لا يملك قدرا كافيا من الخبرات في الحياة، فيتشكل لديه فهم خاطئ للأحداث التي تحصل حوله في بيئة العمل التي يعمل بها”.
وترى الحسن أن التأثيرات السلبية على الطفل العامل تمتد لتنعكس على حياته في المنزل: “يتكون طفل ذو شخصية قاسية بالتعامل مع والدته وأخواته البنات، بسبب شعوره بأنه هو من يقوم بإعالة أسرته وحاجتهم الدائمة له”، مشيرة إلى إن النمط الاجتماعي للطفل انطوائي وانعزالي عن أفراد المجتمع المحيط به.
حماية الطفل من العمل في سن مبكرة في القوانين والتشريعات
تعد مسألة عمالة الأطفال مشكلة عالمية ليست على مستوى شمال وشرق سوريا وحسب، وإنما على مستوى العالم، فبحسب تقديرات منظمة العمل الدولية يعمل حوالي 160 مليون طفل في العالم في ظروف غير قانونية وخطيرة تعرضهم للاستغلال والخطر، ولأجل حماية حقوق الأطفال ومكافحة عمالتهم تم تبني مجموعة من التشريعات والقوانين الدولية التي تهدف إلى توفير بيئة آمنة، وصحية للأطفال وضمان تطورهم الصحيح وتعليمهم الجيد.
وفي هذا السياق يقول المحامي والناشط الحقوقي جوان عيسو: “فيما يخص التشريعات التي سنَتها الأمم المتحدة، بهدف حماية حقوق الطفل فإن هناك عدة مواد تنص على ضرورة حماية حقوق الطفل منها اتفاقية حقوق الطفل عام 1989م، التي تنص على ضمان الحقوق المختلفة (الاقتصادية والسياسية والثقافية والمدنية) للأطفال، والمعروفة بحق الأطفال في الحماية من الاستغلال الاقتصادي، ومن الأعمال التي تهدد صحتهم أو تؤثر على نموهم، فضلا عن إلزام الدول الأعضاء بوضع حد أدنى لسن العمل وهو 18 عاما، كذلك البروتوكولين الملحقين بهذه الاتفاقية عام 2000، وصدور اتفاقية الحد الأدنى لسن العمل عام 1973 حيث صادقت عليها 172 دولة، إضافة إلى تأسيس برنامج دولي للقضاء على عمل الأطفال عام 1992، وغيرها من الاتفاقيات الخاصة بعمالة الأطفال”.
ويشير عيسو إلى إن جميع الاتفاقيات السابقة تؤكد على ضرورة حماية ورعاية مصالح الطفل باعتبارها أهمية قصوى، والبحث عن الآليات المناسبة، لتقديم ما يلزم للطفل ليعيش حياة مستقرة وسليمة، كما يجب إشراك الأهل في التخطيط لتأمين حياة أفضل لهم”.
ويذكر عيسو إنه بحسب تقارير صادرة عن جهات حقوقية حول واقع الأطفال في شمال وشرق سوريا: ” في الحقيقة واقع الأطفال سيء وسلبي في المنطقة فهناك انتهاك حقوقي لحقوقهم فالمنطقة تعد منكوبة نتيجة سنوات الحرب الطويلة، وتردي الوضع الواقع الاقتصادي كلها عوامل ساهمت في انتشار مشكلة عمالة الأطفال”.
ويبيّن أنهم تواصلوا مع ((Save the children وهي منظمة تنشط في شمال وشرق سوريا وتُعنى بشؤون الطفل، عبر الإيميل الرسمي، لكن لم يتم الرد حول إحصائيات المنظمة عن عدد الأطفال العاملين في المنطقة، والإجراءات المتخذة من قبل المنظمة للحد من ظاهرة عمالة الأطفال في مناطق شمال وشرق سوريا.
وبحسب صحيفة “الوطن السورية” لا توجد إحصائيات دقيقة لعمالة الأطفال في سوريا خلال سنوات الحرب.
الحلول المقترحة للحد من عمالة الأطفال وتوفير حياة آمنة لهم
تعد مشكلة عمالة الأطفال في سوريا عموما مسألة شائكة، يجب أن تتضافر فيها الجهود المحلية والدولية والمنظمات الإنسانية، للحد من هذه الظاهرة، وذلك من خلال تأمين سبل معيشة أفضل ونشر الوعي بين الأهل والمجتمع المحلي وتعزيز الوعي بأهمية توفير التعليم وضمان حقوقهم.
ويرى عيسو أن مشكلة عمالة الأطفال في مناطق شمال وشرق سوريا مستمرة “نتيجة لظروف الحرب المستمرة وفقدان أطفال لأسرهم أو لأحد الوالدين ما يجعلهم مجبرين على الدخول إلى سوق العمل بغض النظر عن سنهم، وبالتالي إهمال حقهم الطبيعي في العيش حياة آمنة ومستقرة وسط عائلته”.
ويلفت إلى ضرورة “تطوير التشريعات القانونية وتعديلها كي تتماشى مع الواقع الموجود على الأرض لتوفير حماية للطفل بشكل أفضل، إضافة إلى تشديد العقوبات والرقابة على الجهات التي تقوم بتشغيل الأطفال من معامل أو مرافق عامة”.
ويرى أنّه “يجب أن تتوحد الجهود بين الجهات المحلية والمؤسسات المدنية والمنظمات العالمية المعنية بشؤون الطفل، لأجل توفير الاستقرار للأطفال وتحسين جودة التعليم في المدارس، وتعزيزها الوعي بأهمية تعليم الطفل، وضمان حقهم في حياة آمنة ومستقرة”. مؤكداً على أهمية مكافحة الفقر لدى أسر الأطفال العاملين، ورفع الوعي لدى أسر الأطفال العاملين بالأضرار النفسية والجسدية، وحتى الاجتماعية للعمل على تكوين شخصية الطفل وبناء ثقته بنفسه وذلك لضمان حياة آمنة ومستقرة له.
*الصورة من النت