Local
سري كانيه\ رأس العين.. المدنية التي دمّرتها “الثورة” وشتّت أهلها
ربما لا يكون صحيحًا أن يقابل كلمة “ثورة” من حيث المفهوم جملة نعت، طالما أن الثورة مفهوم عن فئة مجتمعية تقوم بمناهضة السلطة غير الديمقراطية من أجل التغيير، واستبدال الواقع المعاش لظروف أفضل، وانهاء حقبة ظلم واستغلال واستعباد، نحو انفتاح وعقد جديد، ربما بهذا يكون المنطق، في حين أن الواقع السوري الذي نعيشه منذ آذار ٢٠١١، استطاع أن يتجاوز المنطق بكثير، ومن بينه القفز على المعنى الفكري للمفاهيم واستغلالها في سبيل الاستبداد.
كان لا بد من هذه المقدمة، كي يكون مدخلًا لعنوان ربما يراه كثيرون أنه غريب أو فيه من التجني شيئ، لكن ليس بعد انتهاء المقال، الذي سيلخص قصة مدينة في ظل الثورة السورية، ربما ليست الوحيدة، بالطبع هناك مدن كثيرة تشبه حالها حال هذه المدينة، من حيث أن النقد سيكون موجهًا نحو الثورة السورية، ومرد هذا أن السوريين الذين عاشوا عقود ظلم سابقًا، عندما قرروا النهوض في وجه الظلم والاستبداد، لم يكن لديهم أبدًا نية استبدال مستبد بمستبد، وأن مستقبلهم القادم مصيره مثل حقبتهم الماضية!.
لم تكن مدينة سري كانيه\ رأس العين، الواقعة في روج آفا\ شمال شرق سوريا، بطبيعتها قبل فجر ٩ تشرين الثاني\ نوفمبر ٢٠١٢ كما بعده، كما لم تكن الحياة في المدينة قبل هذا التاريخ كما بعده، ولا حياة السكان قبل ذاك التاريخ كما بعده، فسبق هذا التاريخ أن المدينة الصغيرة التي تشبه (سوريا بديمغرافيتها) يعيش فيها تنوع سكاني من حيث الطوائف والأديان والمذاهب والقوميات، فيها المسيحيين والمسلمين، السنة والشيعة والعلويين، الكرد والعرب، تركمان وشركس وشيشان وأرمن وكلدوأشوريين وسريان وكرد. أهل مدينة متحابين، لا يخلو الواقع من تفرقة من قبل النظام المتمثل بحكم البعث الحاكم. هذا وكان في المدينة حراك ساند “الثورة السورية” في منطلقها، فشهدت التظاهرات السلمية، كان موقف متظاهريها مثل موقف متظاهري المنطقة (الكردية) يؤمنون بالتغيير السلمي، وينبذون العنف، فالتظاهرات التي خرجت حملت شعارات التنوع والتعددية واثبات الحقوق، والتغيير نحو الديمقراطية، وترى في التظاهرات من كافة المكونات وللمرأة دور هام فيها، ليس كمناطق أخرى الذكورية طاغية على المشهد، وعلى عكس كثير من المدن الباقية السورية، لم يكن هناك أصوات تفرقة، أو نفس طائفي، أو حقد مذهبي.. الخ.
كان أهل المدينة يحلمون بفجر جديد، يغير حالهم نحو الأفضل، لكن حصل أنه في فجر يوم التاسع من تشرين الثاني ٢٠١٢، اجتاحت كتائب ٤٨ فصيل عسكري (بنفس ديني) يقودهم فصيل “غرباء الشام” مدينة سري كانيه\ رأس العين، دخلوها من طرفين، عبر بوابة “تل حلف” غرب المدينة التي تبعد عن مركز المدينة ٤ كيلومتر، والثاني وبتسهيل من قبل تركيا عبر البوابة الحدودية مع تركيا (بوابة رأس العين- جيلان بينار) المغلقة من الطرفين التركي والسوري منذ عقود،، دون علم وأذن أهل المدينة، وكانت المدينة شيه خالية تقريبًا من تواجد النظام السوري، حيث لم يكن فيها سوى ثلاث مفارز أمنية (أمن الدولة- الأمن العسكري- الأمن السياسي) عدد العاملين فيها بالعشرات، كانوا في فترة التظاهرات يتجنبون التصادم مع المتظاهرين، وهذه كانت سياسة النظام بشكل عام في التعامل مع تظاهرات المناطق الكردية.
كانت مناطق الكرد في سوريا، ملاذًا أمنًا لنازحين من محافظات درعا وحمص وحلب وغيرها، لقد أكرم أهل المنطقة ضيوفهم، كثير من الضيوف كانوا عائلات شخصيات معارضة وضد النظام وبينهم موالاة، لم يعيشوا التفرقة، وكان موقف الكرد من سياسيين وتجمعات وفاعلين وصحافيين أن المنطقة لا تقبل أي قوى عسكرية وأن النضال فيها مقتصر على مبدأ سلمي.
كان الاتصال عبر الانترنت من القاهرة حيث أشارك في ورشة إعلامية، وأول مرة أسافر من سوريا بعد الحصول على الجنسية، يؤرقني، من خلال التواصل مع زميلين صحافيين (رودي سعيد وهيثم حجي) وأخرين، أعيش معهم لحظات نزوح الناس، ومنهم أهلي، بينهم زوجتي وطفلي الصغير، وهم يعبرون الحدود بما يرتدون لسرعة تواتر الاشتباكات، وخوف الناس من القصف الذي سيلي دخول الفصائل، مع وجود عامل أخر يساعد في النزوح هو أن الأهالي لا يقبلون أن يصبحوا حاضنة لفصائل سيتم تبيان فكرهم لاحقًا من حيث أنهم راديكاليون ومتطرفون.
المنطقة الممتدة من البوابة الحدودية غرب المدينة حتى منتصف السوق شاملًا حي المحطة بمعظمه، باتت منطقة خالية من السكان، وهي المنطقة الواقعة تحت سيطرة فصائل المعارضة، فانقسمت الناس بين من توجه للأحياء الشرقية في المدينة، وغالبية توجهوا إلى الحدود، حيث المشهد المعتاد للسوريين وعذاباتهم، لكن هذه المرة ليس المسبب هو النظام بل فصائل الثورة السورية، فقد شهدت مدن سورية عدة حالات اشتباك ونزوح وتهجير وقصف كان المسبب النظام السوري، بينما هنا مسبب الآلام لأبناء سري كانيه هم فصائل محسوبة على المعارضة السورية، وبالفعل تعرضت المدينة في يوم ١٢ تشرين الثاني ٢٠١٢ إلى قصف من قبل النظام بعد سيطرة الجيش السوري الحر وكان ضحايا القصف ١٣ مدني من أهالي حي المحطة بينهم أطفال ونساء.
كان من الصعب تخيل المشهد الذي يعيشه الناس وظروفهم. والأصعب أن تكون مجرد ناقل لتغطية مآلات وعذابات أهلك وهم يفرون من المجهول، ومؤمن بنفس الوقت بفكرة التغيير التي حلمت بها والتي تراها تتلاشى، لأول مرة سنتعامل مع التغطية الخبرية السورية في الإعلام أن الذي اجتاح وشرد الناس، وقتل واعتقل وعذب هم فصائل “الثورة السورية” العسكرية المدعومة معنويًا من سياسيين وناشطين ثوريين وفاعلين في المجتمع المدني والإعلام من سوريين معارضين، كانوا مؤمنين بقضية وصفوها بـ”التحرير” وأن هذا يخدم الثورة السورية! في حين أن سري كانيه\ رأس العين التي هي بوابة مناطق الكرد في سوريا. كانت تبعد ٩٠٠ كيلومتر عن دمشق حيث يقطن النظام الذي من المفترض أن الثورة خرجت ضده!
كان مشهد تحويل المدينة في إعلام الثورة ووسائل الإعلام التي حضرت من بينها “الجزيرة”، يوحي لك أن المدينة الصغيرة هي محور سوريا ككل، بين شعارات أنها منطقة استراتيجية، وبوابة عبور وغير ذلك، فيما لم يكترث أحد لواقع الناس ولماذا هجرتهم الثورة! ففي تغطية إعلامية باسطنبول عام ٢٠١٤ سألت أحد الزملاء من مراسلي الجزيرة الذين أعدوا تقرير للجزيرة من سري كانيه مع دخول الجيش السوري الحر إليها. لماذا اقتصرت تغطيتك على مناطق سيطرة فصائل المعارضة برغم أن شباب كرد طلبوا منك الوصول للأحياء الشرقية لأخذ رأي الناس؟ فقال لي: (غطيت المساحة التي طلب مني تغطيتها فقط).
مع دخول الفصائل إلى مدينة سري كانيه\ رأس العين، ومع ساعات الفجر الأولى على الضفة الأخرى لمشهد الحدود حيث خروج الناس من المدينة، كانت تدار معارك بمركز المدينة بين فصائل المعارضة مع (الأمن العسكري) بعد أن فرّ عناصر الأمن السياسي وأمن الدولة. كانت صيحات المقاتلين في فصائل المعارضة أثناء القتال، وبحسب الفيديوهات والصور معظمهم من ريفي حلب وإدلب (لا يعرفون شيء عن المنطقة)، واضحة بنفسها المذهبي والطائفي، كانت مثل (الله أكبر) (قائدنا للأبد سيدنا محمد)، هذا المشهد كان يوازي أسماء الفصائل التي دخلت منها (غرباء الشام) (لواء الله أكبر)، حتى أن بين قادة الفصائل شخصيتان هما (صدام الجمل) و(مهيمن الطائي) الأول أصبح أخيرًا أحد قادة داعش في دير الزور وقبل مدة قيل إنه اعتقل في الموصل بالعراق، والثاني قتل وهو في صفوف داعش في معارك النظام وداعش في تدمر قبل أعوام، وأثناء دخول الفصائل لمدينة سري كانيه، دخل (الطائي) على ظهر فرس وهو يحمل سيف بيده متيمنًا بـ”الفتوحات الإسلامية”، كانت هذه اللوحة كافية لئن يظهر إلى أين من الممكن أن تتجه بوصلة التغيير!. فبعد دخول الفصائل وردة فعل الناس عليهم، تم اغتيال مفهوم الثورة الحقيقية لدى أبناء المنطقة، وبات في اعتقادهم أن كل الثورة بهذا الفكر والفعل، وهذا أمر طبيعي مع انتشار المد الطائفي للثورة، وصراع الموالاة والمعارضة، فقد حولت فصائل الجيش السوري الحر منطقة من داعمة للثورة إلى منطقة ناقمة عليها، ليس للجيش السوري الحر أي حاضنة فيها، ومن هنا تم اختيار خيار المقاومة من الأهالي.
بعد أقل من عام من تواجد الفصائل المدعومة بشكل كبير من تركيا، ماديًا وبالأسلحة، في منتصف ٢٠١٣ قامت الفصائل بتصفية بين بعضها البعض لتظهر قوة جبهة النصرة، التي سيطرت على نقاط فصائل المعارضة في سري كانيه\ رأس العين وأخذت مكانها، أي أن الفصائل التي دخلت باسم الجيش السوري الحر، والتحرير تحولت لجبهة النصرة، قبل أن يتم طردها من المدينة باتجاه غرب المدينة ويتم انقسام في صفوف جبهة النصرة عام ٢٠١٤ إلى قسم بايع (تنظيم الدولة الإسلامية- داعش) وقسم بقي مع جبهة النصرة، لتبدأ شرارة معركة ضد داعش من قبل المقاتلين الكرد من هناك.
ست سنوات من هجمة فصائل (الجيش السوري الحر) التي أيدتها قوى الثورة السورية، قوبل نقدنا آنذاك لها بأنه تجنّي على “الثورة”، فأذكر تمامًا تهجم صديق يعمل في وسيلة إعلام دولية على نقد لي لدخول الفصائل إلى مدينة سري كانيه فقال: (تنتقدون الفصائل وتصفونهم بالمنتهكين لأنهم حرروا مدنكم)، لم يدرك الزميل الصحافي مدى خطورة تواجد هذا الفكر في جسد ثورة، فكانت تلك المحطة لنا محاولة إيصال الصورة الحقيقية عما يحدث في مناطق الكرد للرأي العام السوري المعارض، قابل ذلك بداية إحباط فينا لعدم الرغبة في التصديق من قبل السوريين، ورفض نقد الثورة من قبل كثير من الفاعلين السوريين، على العكس مع ظهور نوايا الفصائل واطماعها في المنطقة، بدا أن هناك محاولة جادة ومخطط مقبول لطمس أي مطلب قومي كردي، وهذا بدا في موقف الفاعليين السوريين من أنصار الثورة السورية، الذين لم يكن يهمهم أن تتحول المنطقة لصراع كردي- عربي، الأمر الذي حصل بالفعل.
اليوم بعد ست سنوات، لم تصحى المدينة من الحال الذي أدخلته إليها الفصائل العسكرية، كما لم يعد جميع السكان إليها، فشهدت المدينة في المرحلة الماضية المأسي والتشتت والبعد، والضحايا، فمن الصعب على أهلها نسيان أن ما حصل لهم جاء بسبب الثورة التي كان مبدأها -على أساس- التغيير والوصول لمجتمع ديمقراطي، وإزالة كل أنواع الظلم والاستبداد، لكن يبدو أن سوريا بين ثورتي آذار ١٩٦٣ و آذار ٢٠١١ انتجت طرفان عقلية واحدة وبفعل واحد.