Local
قصتنا وأبو الحارث…
(المنشور يعتبر شهادة من بين مئات القصص والشهادات هي لا تشمل حدث 12 آذار بل مجرد قصة منه لذا لا يتم اسقاطها بالعموم على الحدث لكن تؤخذ كشهادة فردية)
في اليومين التاليين لـ 12 آذار 2004 بعد تشييع شهداء الملعب بدأت الانتفاضة الكردية في سوريا، حيث أطلق الأمن السوري الرصاص على المشيعين وبات هناك ضحايا جدد.
في اليوم التالي التوتر مستمر في المنطقة، صباحًا نحو الساعة الحادية عشرة صباحًا تواجد محمود الناصر (أبو الحارث) في محل والدي، كان أبو الحارث مسؤولًا في أمن الدولة عن الملف الكردي، ومجيئة للسوق ومحل الوالد (ربما ذهب لأي محل) بدراية امكانية أن يكون هناك تحرك مناهض لفعل السلطة في مدن كردستان سوريا، طلب أم أجهز له القهوة، خلال تجهيزي القهوة سمع صوت هاتفه يرن، جاء الاتصال وعلى الفور انطلق أبو الحارث خارج المحل، حاول أبي الاستفسار عن عودته فقال سيعود، خرجت وأعلم أن هناك أجواء متوترة وأن سيكون هناك رد على فعل النظام بقتل المدنيين، وبالفعل عند تجوالي في السوق عرفت أن هناك تظاهرة قادمة من جهة شرق المدينة (الأكراد ينتفضون في كل المدن) لم تكن لوسائل التواصل تواجد كبير ولم يكن للهواتف المحمولة كثافة انتشار.
بعد نحو نصف ساعة وصلت التظاهرة لمنتصف السوق، قامت المحال الكردية بالإغلاق وعلى غرار ذلك غالبية السوق قام بالإغلاق حيث يخشى الجميع ردة فعل السلطة على تظاهرة الكرد، وصلت التظاهرة لحي المحطة غربي المدينة ثم عادت للسوق وصولًا للمصرف الزراعي لم يبق في المسير صورة ورمزًا للنظام وحزب البعث في المدينة، كانت ظاهرة لوحات “الفلكس” حديثة.
بعد ذلك توجه المتظاهرون باتجاه دوار الحسكة، هناك حيث تمثال لحافظ الأسد تم كسر التمثال، سألت ابن عمي وهو يكبرني ماذا سيحدث بعد هذا فأجاب (كردستان) لم تكن الفرحة والنشوة تجعنا نفكر بالعاقبة خاصة أن النظام السوري لم يتحرك ضد المتظاهرين حتى مرور المتظاهرين بجانب مفرزة أمن الدولة لم يسفر عن تصادم عنيف فالعناصر لم يقوموا بأي ردة فعل وكذلك عند مخفر البلدة وقسم الجنائية المتلاصقان تم إغلاق الأبواب وعدم الاعتراض على المتظاهرين!.
بعد انتهاء الحشود كانت الأخبار تأتي من مدن أخرى حول الحشود من الأكراد يتظاهرون في مدنهم امتد هذا لكافة المدن السورية حيث تواجد الكرد ووصل لأماكن حساسة مثل الجامعات وخاصة حلب ودمشق وحتى داخل حرم المدينة الجامعية.
بعد عودة الكرد في مدينة سري كانيه\ رأس العين، لمنازلهم، كان هناك تخوف على المدينة وأيضًا مدينة الحسكة نتيجة تواجد كثيف لخليط متنوع في المدينة وبالفعل تمام الساعة الثانية والنصف ظهرًا، كنا في المنزل (ساعة الغذاء) تم الاتصال بوالدي من مستشفى السلام المقابل لمحل والدي في حي الكنائس، الخبر (ابو سردار لا تترك المنزل فقد تم تفريغ المحل وسرقة كل ما فيه من قبل عرب حرضهم النظام عبر شعبة الحزب) كان كلام صديق الوالد من المستشفى نصيحة بأن لا يأتي أحد منا فاللصوص الذين يسلبون محال الكرد في السوق مسلحين ومحصنين من قبل الأمن والسلطة.
كان على إثر خروج الكرد جرى اجتماع أمني في المدينة بين الجهات الأمنية ومدير المنطقة وشعبة الحزب وتكفل الحزب بتجميع “عرب” من المدينة وريفها وسلمهم السلاح ليكونوا الحصن المدافع عن النظام فكانت البداية من السرقة والنهب والسلب.
جميع محال الكرد وسط المدينة باتت عرضة للسرقة والنهب والسلب وحتى الآن غير مقيدة في سجلات الدولة.
لم تكتف السلطة بذلك بل أرسلت الغوغاء باتجاه الأحياء الكردية، كان أول الضحايا هو تواجد الحكم الدولي “الاستاذ عبد القادر محمد علي بافي ولات”، عندما حاول الوصول للسوق لمنع العرب الذين حرضهم النظام وشعبة الحزب من السرقة وأيضا للوصول للمركز الثقافي لإخراج عائلة صديقه الغائب عن المدينة، لكن اعتقل هناك بتهمة أنه قادم لتفجير المركز وهو يدفع ثمن ذلك اليوم حتى الآن بأضرار نتيجة اعتقال وتعذيب كبير إضافة لاعتقال شباب وأطفال من المدينة.
كانت ردة الفعل كبيرة جدًا يقال إن الشخص الذي جمع الناس في شعبة “ماجد الحلو” أمسك السلاح وقال “الكراد بالو على تمثال الرئيس ونحن نريد نحمي الدولة”، ولد ذلك احتقان كبير في المدينة عبر تسليح العرب ضد الكرد العزل، بقيت المدينة في توتر كبير لشهور، وبدأ مسلسل الاعتقالات مع قدوم فرقة خاصة من دمشق حاصرت المدينة، كل يوم نستفيق على خبر اعتقال العشرات من أبناء المدينة وهذا ينطبق على مدن أخرى بالطبع.
كان فرع أمن يستلم ملف اعتقالات لأسابيع ينتهي منه فيستلم فرع آخر أيضًا الملفات، في تلك الفترة أصبح الشباب ينامون في النهار ويتحضرون في الليل ينتظرون مصيرهم نتيجة كثافة المداهمات في الليل، كان والدي يخشى كثيرًا وصول اسمائنا وبالفعل كان هناك اسمي واسم شقيقي الصغير بين الأسماء لكن ملفات الأمن الاولى تجاوزتنا ثم في ملف أمن الدولة تم استدعائي.
في فترة المداهمات بقيت نحو ١٧ يوم في منزل ابو ولات (زوج عمتي) برغم كان أكثر مكان من الممكن أن يكون مراقب ومكشوف، لكن على مبدأ أن المكان المكشوف هو الأمن وللقدرة على الهروب لحي آخر من المنزل وأيضًا للبقاء مع أبو ولات الذي كان يحتاج المساعدة والرعاية نتيجة عدم القدرة والقوة.
عند استدعائي جاءت دورية أمن دولة للمنزل وطلبت حضوري، كان الجو العام والنفسي سيء الناس تنتظر مصير مجهول، أصبح الذهاب للأمن راحة غير مقلقلة بقدر القلق الذي نعيشه كل يوم بانتظار مجهول قد يأتي خاصة أننا بدأنا نسمع قصص تعذيب لخارجين من السجن بينما معتقلين آخرين أصبحوا في دمشق وكان هناك تخوف كبير من أن يكون مصير المعتقلين المجهول!
في المساء قمت بتجهيز نفسي والذهاب لفرع أمن الدولة، كان ملف أمن الدولة الأخير بين الملفات التي قامت الأمن بالاعتقالات من خلالها، وأنا ارتدي لباس سميك وبدل البنطال اثنان وبدل الكنزة اثنتان…. الخ.
استجوبني رئيس المفرزة أبو وائل للتحقيق وكانت عيناي مغلقة بعد ذلك لكنني اسمع صوتهم، كان واضح أن لا اتهام مباشر سوى المشاركة في التظاهرة، تم تخويفي بجهاز الكهرباء دون استخدامه ثم رأيت نفسي انساب لدولاب صغير وعيناي مغلقة عند الضرب كان هناك من يقول لي “يا ابني اعترف وارحم حالك” كنت أسمع صوت أبو الحارث لأنني اعرفه وجميع من في البلد يعرفه تمامًا بحكم أن أبو الحارث عنصر قديم في أمن الدولة في المدينة وفي الأساس بحكم اشرافه على الملف الكردي لديه تواصل مع الكرد في المدينة، عند سماع صوته اجبت “عمي أبو الحارث أنت كنت بالمحل عنا وأنا أجهز القهوة” فصرخ “مين أبو الحارث ولاك” وأكمل الضرب، لم أكمل ساعات حتى تم استدعاء والدي وخرجت كان نصيبي ونصيب بعض الشباب في تلك المرحلة قليلة مقارنة بما لحق بشباب في المدينة من أذى واعتقال مستمر البعض لشهور والبعض لأكثر من سنة حيث كان التفكير بخروجهم للحياة مجددًا مستحيل!
حقيقة لا انكر أننا كنا متهورون في الشباب ولدينا عناد كبير فلم أتقبل فكرة ما حصل بعد نحو سنة خلال مرور أبو الحارث من السوق أنا ووالدي أمام المحل ظهر أنه قادم باتجاهنا فحذرني أبي من أي تصرف دخلت للمحل وعند وصوله لم استطع أن أرد السلام ورفضت المصافحة (حقيقة لم تكن سوى ردة فعل بدون اي دراية بالنتائج) لكنه تفهم الأمر وقال لوالدي “جيد أن ابنك لم يعترف”.
التقيت باسطنبول بأبو الحارث في عام 2014 خلال تغطيتي لنشاط للمعارضة كان في الاوتيل الذي يقام فيه النشاط على مدى أيام لم استطع النظر له وأنا في حالة غليان حقيقة وفي اليوم الثالث أصبحنا في ممر وجها لوجه طلب المصافحة فرفضت كنت أرفض تمامًا فكرة أن يتحول هذا الانسان لمعارض فالرجل تربى بإخلاص في أفرع الأمن والصورة الذهنية لدينا لا تستطيع تصور أن يتحول أبو الحارث لرجل ديمقراطي ومعارض وبالفعل قصة تحوله للمعارضة بالأساس غامضة حتى اليوم لا يستطيع أبناء مدينة سري كانية وأنا متاكد من تقبل فكرة أن يتحول هذا الرجل للمعارضة وأن يترك الولاء والإخلاص للنظام السوري! في حين أن الرجل اليوم يعتبر رمزًا للثورة وشاهدًا على عصر ضد الكرد دون أن يَسأل عن الدور الذي قامه بهد لعقود في اضطهاد السوريين.
الرحمة لجميع شهداء انتفاضة اذار ٢٠٠٤
١٣ اذار\ مارس ٢٠٢٠
الصورة منقولة من الانترنت